أود أن أهنئكم بـ«صوم السيدة العذراء» الذى بدأ أمس، ويمتد على مدار أسبوعين لينتهى بـ«عيد السيدة العذراء» فى الثانى والعشرين من شهر أغسطس، وهو أحد أحب الأصوام إلى قلب المِصريِّين جميعًا مَسيحيِّين ومسلمين لما تناله «السيدة العذراء» من محبة عميقة لديهم؛ وكيف لا؟ فهى الشخصية التى ذُكرت بكل إجلال وإكرام فى «التوراة» و«الإنجيل» و«القرآن»، ووُصفت بصفات عديدة لا يوجد نظير لها فى أى شخصية مرت بالتاريخ!
لقد كتب عنها «سليمان الحكيم» فى «سفر الأمثال»: «… بَنَاتٌ كَثِيرَاتٌ عَمِلْنَ فَضْلاً، أَمَّا أَنْتِ فَفُقْتِ عَلَيْهِنَّ جَمِيعًا»، كما تنبأ عنها «إشَعَياء النبى»ّ قائلاً: «… يُعْطِيكُمُ السَّيِّدُ نَفْسُهُ آيَةً: هَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْنًا وَتَدْعُو اسْمَهُ عِمَّانُوئِيلَ». ووصفها «داوود» الملك النبى بأنها الملكة الجالسة عن يمين الملك. وفى «الإنجيل» يذكر لنا «لوقا الإنجيلى» حديث رئيس الملائكة «جَبرائيل» إلى «السيدة العذراء» عندما بشرها بولادة السيد المسيح منها حين بادرها بكلماته المعبرة عن تكريم السماء لها قائلًا: «… مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فِى النِّسَاءِ… لاَ تَخَافِى يَا مَرْيَمُ، لأَنَّكِ قَدْ وَجَدْتِ نِعْمَةً عِنْدَ اللهِ. وَهَا أَنْتِ سَتَحْبَلِينَ وَتَلِدِينَ ابْنًا وَتُسَمِّينَهُ يَسُوعَ. هٰذَا يَكُونُ عَظِيمًا، وَابْنَ الْعَلِى يُدْعَى، وَيُعْطِيهِ الرَّبُّ الإِلٰهُ كُرْسِى دَاوُودَ أَبِيهِ، وَيَمْلِكُ عَلَى بَيْتِ يَعْقُوبَ إِلَى الأَبَدِ، وَلاَ يَكُونُ لِمُلْكِهِ نِهَايَةٌ». أيضًا يُجل «القرآن» السيدة العذراء إجلالاً كبيرًا إذ قيل عنها فى «سورة آل عمران»: ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ﴾. وفى سورة التحريم: ﴿وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَّتِى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ﴾. وهكذا صارت للسيدة العذراء مكانة فريدة وإجلال ومحبة شديدان فى قلوب المِصريين جميعًا.
قصة هذا الصوم
لهذا الصوم قصة: فقد كان الآباء الرسل تلاميذ السيد المسيح حاضرين جميعهم نياحة «السيدة العذراء» فى الحادى والعشرين من طوبة (30 /1) ما عدا «توما الرسول» الذى كان يبشر فى بلاد «الهند» آنذاك. وفى أثناء عودته شاهد منظرًا سمائيًّا: إذا الملائكة تحمل جسد «السيدة العذراء» إلى السماء. وعندما عاد «توما الرسول» إلى بقية الرسل لم يخبرهم بما شاهده، بل سألهم عن «السيدة العذراء»، فأخبروه أنها تنيحت بينما هو فى خدمته، فطلب إليهم أن يُروه قبرها فإذا جسدها المبارك ليس فيه! فقص عليهم ما شاهده؛ فقدم الرسل صومًا لله بدأ فى الأول من شهر مسرى (7 /8) من أجل أن يسمح لهم بمشاهدة ذلك المشهد العجيب؛ وبالفعل تحقق لهم ذلك فى السادس عشَر من مسرى (22 /8) الذى صار عيدًا «للسيدة العذراء» يحتفل به فى كل عام.
حياة «السيدة العذراء»
أما عن حياة «السيدة العذراء»، فقد كانت ممتلئة بالبر والقداسة منذ ولادتها من «يواقيم» و«حِنة» البارّين اللذين قدماها إلى الله، فعاشت فى الهيكل فى خدمة بيت الله. وبينما هى تنمو كانت نفسها أيضًا تنمو فى كل نعمة وصلاح وبر، فعاشت الطفلة «مريم» فى الهيكل فى صلوات وأصوام وحياة بر وقداسة، إلى أن تركت الهيكل وعاشت فى بيت «يوسُِف» النجار البار. وقد تميزت حياة السيدة العذراء بفضائل كثيرة: منها الطهارة، والإيمان، والخدمة، والصبر، وغيرها من الفضائل إلا أننى أود أن أتحدث عن «الاحتمال» فى حياة السيدة العذراء.
الاحتمال
الاحتمال لُغويًّا يعنى: التجلُّد والصبر؛ وهذا يعنى أن ظروفا ومواقف صعبة تمر بالإنسان فيصبر ويتجلد عليها. ولم تكُن حياة «السيدة العذراء» سهلة قط، بل امتلأت بالمتاعب والآلام التى احتملتها بشكر كثير منذ طفولتها… و… والحديث فى «مِصر الحُلوة» لا ينتهى!
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى