امتلأت حياة «السيدة العذراء» بالمتاعب والصعاب والآلام التى احتملتها بشكر كثير منذ طفولتها! كان ميلاد «العذراء مريم» فى الأول من شهر «بَشَنْس» (9/5)، وفى الثالث من «كِيَهْك» (13/12) دخلت إلى الهيكل وهى لم تتخطَّ الثالثة بعد. ولنا أن نحس بمشاعر طفلة تترك أبويها وهى فى سن صغيرة لتحيا فى الهيكل خادمة ومسبحة، فاحتملت وهى فى نعومة الأظفار فراقهما. ولما بلغت الثامنة، تُوفى والداها، ففقدت حتى الأوقات القليلة التى كانت تجمعها بهما! وهكذا احتملت حياة اليتم والوحدة، لكنها فى وداعة فريدة انشغلت بالله أب الكل وبالتسبيح. وفى الثانية عشرة من عمرها، تركت الهيكل الذى بات ملجأها الأمين فى سنيها الأولى لتحيا فى كنف نجار عجوز، محتملةً حياته الفقيرة.
وحين ولدت طفلها، لم تجد لها مكانًا لتضع مولودها سوى فى حظيرة حيوانات!! ولم تمر الأيام إلا وكانت تحمل طفلها وتهرُب به لائذةً إلى «مِصر» من بطش «هيرودُس» الذى فتش عنه باجتهاد وتدقيق لقتله!! وتمضى أيامها ثقيلة وقد قاربت ثلاث سنوات ونصف السنة، فى تَرحال من «بيت لحم» بفلسطين إلى «غزة» ومنها إلى مدينة «الفَرَما» ثم «تل بسطا»، عبر مدن وقرى، لتصل إلى «جبل قُسْقام»، حيث الآن الدير الذى على اسمها المعروف بـ«المُحَرَّق»، متعرضةً لمعاملات جافة من بعض الناس، محتملةً الطرد من مدينة إلى أخرى بسبب وقائع سقوط الأصنام أمام مرور الطفل يسوع وقت دخوله كما حدث فى قرية قُسْقام (قوست ـ قوصيا): إذ هوِى الصنم الذى كان يعبده أهل المدينة متحطمًا فور قدوم «العائلة المقدسة» فسارع الأهالى بطرد أفرادهم جميعًا!! وهكذا مرت الأيام بين شدة ويسر حتى عادت إلى أرض «فلسطين».
لقد تحملت «السيدة العذراء» أصعب ما يمكن أن يلقاه أب أو أم عندما تعرض السيد المسيح لاضطهادات وإهانات ثم أخيرًا آلام الصلب، بعد صراخ الشعب بإصرار: «اُصلبه! اُصلبه!»، وهو الذى كان يجول يصنع بهم بل بالبشر خيرًا!! ما أقسى تلك المشاعر التى جازت فى قلب «السيدة العذراء» فأضحت حياتها تجسيدًا للتحمل إلى أن تنيحت فى الحادى والعشرين من طوبة (30/1).
الاتضاع
سمة أخرى برزت فى حياة «السيدة العذراء» وهى صفة «الاتضاع» التى تجلت فى كثير من المواقف: لعل أبرزها تلك الكلمات التى نطقت بها بعد أن بشرها الملاك معلنًا لها أنها ستلد السيد المسيح: «هوَذا أنا أمَة الرب. ليكُن لى كقولك»، فعلى الرغم من أن الله قد اختارها من بين كل نساء العالم، فإن ذلك لم يظهر لنا إلا أعماق قلبها الممتلئ نعمة وتواضعًا إذ سلمت جميع أمورها بين يدى الله ـ تبارك اسمه.
كذلك رأيناها تُسرع إلى نسيبتها «أليصابات» المتقدمة فى أيامها، فور علمها أنها حُبلى فى شهرها السادس لكى تخدُِمها إلى أن تلد. ولنا أن نُدرِك مشقة الأمر حين نعرف أن «السيدة العذراء» قد سافرت من «الناصرة» إلى مدينة «يهوذا» فى طريق طويل جبلى شاقّ، وظلت تخدم «أليصابات» إلى أن ولدت ابنها الذى دُعى اسمه «يوحنا» الملقب بـ«المَعمَدان» والذى نادى بالتوبة وأعد طريق قلوب الشعب أمام السيد المسيح. إن البشارة التى قُدمت لها من قِبل الله لم ترفع قلبها فوق البشر بل قد زادتها اتضاعًا لتقوم وتخدم المحتاجين من بنى البشر. هكذا امتلأت «السيدة العذراء» اتضاعًا فى كل أيام حياتها حتى يوم انتقالها من هذا العالم، و… والحديث فى «مِصر الحُلوة» لا ينتهى!
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى