نستكمل معًا حديثنا عن الحكم الرومانيّ وقت أن كانت مِصر وِلاية رومانية. وقد تحدثنا عن “أوبليوس مقرينيوس قيصر” كأول إمبراطور يحكم روما من خارج طبقة مجلس الشيوخ، الذي لم يلبَث طويلًا في الحكم لقيام الجنود عليه وقتله؛ ليُصبح “أُغسطس بسيانوس هيلوغياله” قيصرًا لروما، الذي كثُر ظلمه فطلب إليه الشعب أن يُشرك في الحكم معه “الإسكندر سويرس” ابن زوجة “كراكلا قيصر”؛ فقبِل كارهًا وحاول قتله مرارًا إلا أن أمره انكشف. وقد قٌتل بيد الشعب، وتولى الحكم من بعده “الإسكندر سويرس قيصر”.
“الإسكندر سويرس قيصر” (222 – 235م)
بعد موت “بسيانوس” نادى أعضاء مجلس روما “بالإسكندر سويرس” قيصرًا، لِما رأَوه فيه من عدل وحكمة وقت مشاركته “بسيانوس الحكم. ويذكر المؤرخون أنه كان “حسن السيرة والسياسة، كامل التدبير، موفقًا في جميع أقواله وأفعاله. وكانت أمه مسيحية، وكان يستشيرها في كل الأمور ويطلب نصحها في مشروعاته وأفعاله”. وبعد أن أصبح على عرش روما، أخرج صنم الشمس ـ الذي كان قد أقام “بسيانوس” له هيكلًا عظيمًا في روما وجعله أعظم الآلهة الرومانية ـ وجميع الأصنام الغريبة من روما، وأباح للرومانيِّين التمسك بدينهم القديم أو الإيمان بالمسيحية، وقد عارضه كهنة الأوثان.
اهتم “الإسكندر سويرس قيصر” بسن القوانين النافعة للأخلاق، ونظَّم اقتصاد البلاد وسياستها على أفضل الأحوال. كذٰلك قرَّب إليه أهل المعرفة والحكمة، وكان يُمضي أوقاته في قراءة الكتب الأدبية أو في التدريبات العسكرية. وكان مفوهًا يعظ الناس بالخطابات والمقالات معيدًا عظمة الدولة الرومانية إلى أَوج مجدها. وكان يستشير مجلس روما في أمور الحكم كافة فيما يؤول إلى مصالح شعبه؛ الذي كان قد راعاه بتخفيف الضرائب عنه.
أيضًا كان القيصر يؤمن برعاية المواهب؛ فقد خص الصناع بجوائز لحثهم على التميز في صناعاتهم. وكان يقظًا نشطًا ساهرًا على أمور الحكم، وعلى رأس اهتماماته الجندية؛ فاهتم بتقديم ما يحق لجنوده من طعام وملبس ومال في أوقاتها، ويزور مرضاهم في خيامهم. ومن كلماته: “يجب على الجنديّ كمال الطاعة بقدر الاستطاعة. ويجب له أيضًا على الدولة أن يكون حَسَن اللُّباس، جيد السلاح، مستور القَدم، حاصلًا على قُوته على الوجه الأتم. وأن يكون في جيبه شيء من المال لحاجة نفسه”. وكما كان يوفي الجنود حقهم، كان يوفيهم أشد العقاب متى صدرت منهم هفوة. وهٰكذا وجدت الرعية راعيًا صالحًا لها، فاقتدت به في أخلاقه وعدله.
وبينما كان القيصر منشغلًا بأمور البلاد والرعية مع الاهتمام بالتجارة والصناعة والقوانين والشريعة، حدث انقلاب في بلاد الإمبراطورية في الشرق.
فقد قام “أزدشير” رأس الدولة الساسانية بإخضاع بلاد الفرس وما حولها له، وبدأ زحفه على الممالك الرومانية؛ فأسرع “الإسكندر سويرس قيصر” إلى الشرق بجيشه. ولمّا علِم “أزدشير”، أرسل السفراء يطلبون إعادة جميع بلاد فارس الخاضعة للإمبراطورية الرومانية؛ فتعجب القيصر من جَراءته وسار إلى قتاله.
وقد كان “الإسكندر” رجلًا وقائدًا وإمبراطورًا لا يهاب الموت أو يقبل الخطأ، فحدث في الطريق لمحاربة “أزدشير” أن بعض العساكر خالفوا نظام الجندية؛ فقرر القيصر محاكمتهم قائلًا: “إن السكوت عن إهمال الجنود في واجباتهم لهُوَ يٌزري بشرف المملكة، ويَهدِن (يدفِن) ناموس الأمة”. وفي أثناء ذٰلك، تجمَّع بعض الشعب ليرَوا ما سيحدث في أمر الجنود، فلما سمِعوا كلمات “الإسكندر” أصدروا ضوضاء رافضين كلماته. وعندما حاول الجنود ضبط الصائحين، اشتد غضب الأهالي ورفعوا السلاح في وجه الإمبراطور، فوقف في شجاعة نادرة وسْط الجماهير وقال: “اِغمِدوا سلاحكم، فإني لا أَرهَب التهديد ولا أخشى الوعيد.”، فما كان منهم إلا أن ألقَوا سلاحهم، وهابوه جميعهم.
سار القيصر بجيوشه وانتصر على “أزدشير” الذي هرب فزِعًا من أمامه، وعاد “الإسكندر سويرس” إلى روما منتصرًا واستُقبل بالأفراح في روما. وبعد حين، خرج على رأس جيش لغزو ألمانيا بعد أن شقت عصا الطاعة على روما، إلا أنه عندما وصل فرنسا حدثت فتنة بين جنوده في المعسكر وتقاتلوا، ودخلوا على الإمبراطور خيمته وقتلوه!
أمّا عن أحوال مِصر في أيامه، فقد ذكر المؤرخون أنها كانت أيام ازدهار ورقي وتقدم في العمارة والمعارف والعلوم بأنواعها وتفرعاتها من آداب وفلسفة. ثم ملك من بعد “الإسكندر سويرس قيصر” ” ماكسيمينوس قيصر”.
“ماكسيمينوس قيصر” (235 – 238م)
ذكر الكُتاب والمؤرخون عن “ماكسيمينوس قيصر” أنه كان ضخم البِنية بشكل ملحوظ حتى إنه كان قريبًا في جسمه إلى العمالقة! فقد وصفه البعض في أقواله بطول قامته التي امتدت إلى مترين ونصف المتر!! أمّا عن مظهره فكان مرعبًا لكل من يراه، وقوَّته كانت فوق العادة لدرجة إمكانه تحطيم شجرة بيديه!!
وقد التحق بالجيش في أيام الإمبراطور “سفروس قيصر” بحادثة عجيب؛ عندما تقدم إلى الملك للعمل لديه، فلما رأى شكله وضخامته أمر بأن يصارع جنوده، فهزِم منهم عددًا ليس بقليل، فقام بضمه إلى الجيش. أمّا عن شغره المناصب الرفيعة في الجيش، فلم يكن قد وصل إليها حتى حكم الإمبراطور “الإسكندر سويرس قيصر” الذي نصَّبه قائدًا على أحد الجيوش، وقد ظهرت مهارته الحربية فى حرب الفرس. وبعد موت القيصر نادى به جنوده ملكًا، ثم سرعان ما انضم إليهم باقي الجيوش ثم مجلس شيوخ روما فصار قيصرًا على روما.
إلا أن العجيب في الأمر أن “ماكسيمينوس قيصر” هو أول إمبراطور لروما لم تطأ قدمه روما، كما أنه أول أباطرة “الثُّكْنات” أو “الأباطرة العسكريون” الذين حكموا روما في الفترة من 235م ـ 284م خلال الأزمة التي تعرضت لها الإمبراطورية الرومانية، وكان عددهم 14 إمبراطورًا. وكان أباطرة “الثُّكْنات” لا يستطيعون التباهي بأسماء عائلاتهم، أو وظائف بارزة يشغلونها، وإنما كل ما يملكون فقط هو وظيفتهم العسكرية والأسلحة التي يحملها جنودهم.
وقد كان “ماكسيمينوس قيصر” ظالمًا عنيفًا غير عادل يقتُل بلا مبرر؛ فقد كان يكره نبلاء روما؛ وبخاصة من كانوا يساندون الإمبراطور السابق فقام بقتل عدد غير قليل منهم. وعامل بكل قساوة كل من شعَر بالرِّيبة في أنه يريد التخلص منه بتدبير المؤامرات. وكانت هناك محاولات للتخلص منه إلا أنها باءت بالفشل.
وتُعد بداية حكم “ماكسيمينوس” بدء ما أُطلق عليه “أزمة القرن الثالث” أو “أزمة الإمبراطورية” والتي تعرضت لها الإمبراطورية الرومانية ما بين 235 ـ 248م التي تسببت في حدوث ثلاث مشكلات في آن: الغزو الخارجيّ على الإمبراطورية، والحرب الأهلية داخل البلاد، والانهيار الاقتصاديّ.
وقد أغدق القيصر العطايا على الجنود في مقابل الضرائب التي فُرضت على الشعب. وكان جامعو الضرائب يستخدمون أبشع السبل في جمع هٰذه الأموال من الشعب. وقد اضطهد “ماكسيمينوس” المسيحيين بعنف شديد، معتبرًا إياهم أعداء لروما؛ حتى إنه قتل منهم عددًا كثيرًا جدًا؛ وكان معظم الشهداء من الأساقفة والقساوسة الذين كان يأمر بإلقائهم للوحوش الضارية.
ومع ظلم القيصر الشديد وكراهيته للعدل، قام عليه الجنود والشعب وخلعوه وملَّكوا عليهم الملكَين “جورديان الأب” و”جورديان الإبن”. وقد كانا من عائلات روما النبيلة التي تعيش في أفريقيا في قرطاچنة (المغرب)، وكانا لهما الصيت الحسن حتى إنهما بعد حدوث ثورة في أفريقيا ضد الظلم الرومانيّ نُصِّبا إمبراطوران؛ وهو ما جعل مجلس شيوخ روما يُطلق عليهما لقب “أُغسطس”. وبينما “ماكسيمينوس” يستعد لمحاربتهما لاستعادة عرش روما، كان “كابيليانوس” أحد الوِلاة الرومانيين يخرج لمقاتلتهما، فهُزما وقتلا كلاهما .
فقام مجلس روما بعدها بتوليه “بوبيانوس وبوبينوس” عرش روما. وحين ما وصل الأمر ماكسيمينوس”، سار بجيشه إلى روما، لكنه وجدها مغلَّقة أمامه، فقام بحصارها، ولكن عانى جنوده الأمراض وقلة الطعام فقاموا عليه وقتلوه و … وللحديث عن مصر بقية لا تنتهي …!
الأسقف العام ورئيس المركز الثقافي القبطي الأرثوذكسي