بدأنا الحديث فى المقالة السابقة عن صفحة معاصرة من التاريخ المصرى قدمت شجاعة المِصريِّين وبطولاتهم؛ لأجل تحقيق نصر أكتوبر العظيم الذى نعيش ذكراه فى هٰذه الأيام. لم تقتصر بطولات المقاتل المصرى على مجموعة بعينها، بل امتدت إلى كل مِصرى يحيا على أرض الوطن، فجاء النصر الذى اعتقد العالم أنه صعب المنال، إلا أن العزيمة والعمل مهّدا الطريق أمام أبطال «مِصر». تتعدد قصص تلك البطولات التى أظهرت عمق المحبة والترابط والوَحدة بين أبطال «مِصر»، وحرص كل منهم على التضحية من أجل إنقاذ حياة الآخرين، فى مواقف لا تستطيع الكلمات أن تعبّر عنها. يحكى لنا اللواء الطيار «مدحت عبدالتواب» أحد أبطال «السرب 46 قتال جوى»- وكان برتبة «الملازم الأول» آنذاك، عن ذكريات الحرب وما شهِده من مواقف فى أثناء اندلاعها. شاركت فرقته فى اشتباكات قتالية مع طائرات العدُو حتى تمكنوا من إسقاط طائرتين من طائرات العدو. وفى الرابع عشَر من أكتوبر أقلع بطائرته ثلاث مرات فى أحد الاشتباكات، وكان بصحبة رئيس الأركان اللواء الطيار «سمير عبدالله»، فى «معركة المنصورة الجوية» التى لُقبت بـ«أطول معركة جوية فى التاريخ»! ثم جاءت أحداث يوم الحادى والعشرين من أكتوبر، عندما أصيبت طائرة الطيار «مُحمد عبد التواب» وانفجرت على ارتفاع منخفض ليهبِط فى مِنطقة «الدفرسوار» التى كانت ميدانًا للمعارك القتالية الشرسة بين دبابات العدُو وأبطال الصاعقة. فلاحظ أحد رجال الصاعقة أن الطيار المِصرى لا يستطيع الحركة، وهو فى مرمى نيران العدُو؛ فأسرع إليه غير عابئ بالموت، ليجده مصابًا بكسر فى ساقيه، فسحبه بطل الصاعقة فورًا إلى إحدى الحفر العميقة حتى انتهاء المعركة، ثم حمله إلى أقرب نقطة إسعاف- وكانت على بعد ثلاثة كيلومترات. فنقرأ عن بطولة أحد رجال الصاعقة، عندما ألقى بنفسه على مزاغل المدافع الرشاشة فى «خط بارليف» ليسمح لزملائه بالدخول إلى التحصينات، صائرًا شهيدًا فى حب «مِصر»!!
وهكذا تعددت المواقف البطولية التى لا يمكن حصرها لتصبح من علامات حرب النصر. ولم يشهد لتلك البطولات المِصريون فحسب، بل العالم بأسره وقوات العدُو نفسه: فيصف أحد قائدى الدبابات الذى أصيب فى الحرب رجال «مِصر» قائلاً: «خرجوا علينا من بين جنازير الدبابات المحترقة، يلقمون مدافع آر بى جى ويطلقونها علينا من مسافة عشرين مترا (وهى يجب ألا تقل عن 200 متر!!) كانوا مجانين!! وكأنهم قد قرروا دفع حياتهم ليمنعونا من التقدم مترًا واحدا!!». أمّا عن أبطال السلاح الجوى، فقد حطموا جميع القواعد؛ إذ كان يقوم الطيار الواحد بأكثر من طلعة فى الحرب، حتى إن العدُو ظن أنه خُدع فى عدد الطائرات المصرية! فبدلاً من مواجهة قرابة ستين طائرة، وجدوا أنفسهم فى مواجهة أكثر من 150 طائرة! نعم، إنها بطولات تتبعها بطولات حتى تلاحمت من أجل تحقيق النصر، وقد كان.
وفى تلك الذكرى العطرة، لا يمكننا أن ننسى محطم أكبر حاجز عسكرى فى تاريخ البشر «خط بارليف» الدفاعى المنيع: وهو الضابط المهندس المِصرى اللواء «باقى زكى يوسف»؛ ليزيل بفكره المبتكر أكبر مانع فى طريق النصر. لقد صدقت كلمات «فارار هوكلى» مدير تطوير القتال فى الجيش البريطانى: «الدُّروس المستفادة من «حرب أكتوبر» تتعلق بالأشخاص وبقدراتهم أكثر من الآلات التى يستخدمونها. إن الإنجاز المثير للإعجاب الذى قام به المِصريُّون هو عبقرية ومهارة من القادة والضباط الذين تدربوا، وشنوا هجومًا من هٰذا القبيل الذى جاء مفاجأةً كاملةً للطرف الآخر. فتحية إلى جميع أبطال «مِصر» الذين خطوا بدمائهم وببسالتهم وبعبقريتهم نصر أكتوبر المجيد.
و… والحديث عن «مِصر الحُلوة» لا ينتهى!
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأُرثوذكسى