تحدثنا فى مقالة سابقة عن تولِّى «عيسى بن مُحمد النُّوشَرى» حكم «مِصر» من قِبل الخليفة «المكتفى»، وصراعه مع «مُحمد بن عليّ الخَلَنْجى» الذى نجح فى دخول «مِصر» دون مقاومة تُذكر، وقد استمر القتال بينهما حتى أرسل الخليفة «المكتفى» جيشًا من «العراق» لمساندة «النُّوشَرى»، وقد طالت الحروب بين الفريقين وازدادت أحوال البلاد سوءًا، حتى إن غلاءً عظيمًا ألَمّ بـ«مِصر». وانتهت الحروب بالقبض على «الخَلَنْجى» بعد أن حكم «مِصر» ثمانية أشهر كثرت فيها الفتن والاضطرابات، وكان بعد هزيمته أن دخل جيش العباسيِِّين «مِصر»، وعاد «النُّوشَرى» ليبدأ حكمًا ثانيًا عليها.
«عيسى النُّوشَرى» (٢٩٣-٢٩٧هـ) (٩٠٥-٩٠٩م)
كان أول ما قام به «النُّوشَرى» بعد أن تمكن من حكم «مِصر» هو هدم «ميدان أحمد بن طولون» الذى كان هو وقصوره من أجمل الأعمال التى بُنيت فى الدنيا! ثم باع أنقاضه بأبخس الأثمان! ومن أعمال «النُّوشَرى» أنه منع النَّوح والنداء على الجنائز، وأمر بإغلاق المسجد الجامع فيما بين الصلاتين، لٰكنه أمر بفتحه بعد أيام.
وفى أثناء تلك الحِقبة، مات الخليفة «المكتفى» عام ٢٩٥هـ (٩٠٧م)، فلما سمِع الجند بخبر موته قاموا بأعمال شغَْب على «النُّوشَرى» طالبين منه أموالاً. ولما تولى «المقتدر» أمور الخلافة أقر «عيسى النُّوشَرى» فى حكم «مِصر».
فى عام ٢٩٦هـ (٩٠٨م)، أراد «زيادة الله بن إبراهيم بن الأغلب» حاكم إفريقية أن يدخل «مِصر» بعد أن تعرض للهزيمة من «أبى عبدالله الشيعى»، لٰكن «النُّوشَرى» منعه، فدار القتال بين الفريقين إلى أن عُقد الصلح بينهما، وسمح «النُّوشَرى» بدخول «ابن الأغلب» «مِصر» وحده من دون الجند. ولم تمضِ أيام كثيرة حتى مرض «عيسى النُّوشَرى» ولزِم الفراش إلى أن مات عام ٢٩٧هـ (٩٠٩م): فكان مجمل أيامه فى حكم «مِصر» خَمْس سنوات وشهرين تقريبًا منها المدة التى حكم فيها «الخَلَنْجى» «مِصر»، ثم تولى أمور البلاد من بعده ابنه «أبوالفتح مُحمد بن عيسى» ومن بعده «تكين الحربى».
وفاة الخليفة «المكتفى»
فى عام 295هـ (908م) مات الخليفة «المكتفى» فى «بغداد»، وهو لا يزال شابًّا فى الثانية والثلاثين (أو الثالثة والثلاثين) بعد مرضه عدة أشهر: فكانت مدة خلافته قرابة ستة الأعوام ونصف العام وبضعة أيام، ثم بويع بالخلافة من بعده أخوه «جعفر المقتدر»، وهو لا يزال قاصرًا فى الثالثة عشْرة. وقد شهِد عصر«المكتفى» عددًا من الوقائع: منها زلزلة عظيمة استمرت أيامًا أثرت فى «بغداد» بأسرها، ذهب ضحيتها عدد كبير من البشر، وهبوب رياح عاتية لم يشهد أهل «البصرة» مثيلتها من قبل، وازدياد مياه «دجلة» حتى فاضت، وأغرقت الأرض والمنازل والمزروعات.
الخليفة «جعفر المقتدر بالله» (295- 320هـ) (907- 932م)
كان بعد موت «المكتفى» أن وزيره «العباس بن الحسن» جمع أصحاب الرأى فى البلاد، وتشاوروا فى أمر من يبايعونه خليفةً، فاجتمع الرأى فيما بينهم على تولية «المقتدر» تحقيقًا لرغبة «المكتفى» وموافقة لمشورة أحد رؤساء الدواوين، إلا أن ذٰلك الخبر عندما وصل إلى الشعب ثار، وانضم إليه القواد والقضاة مطالبين جميعًا بخلع «المقتدر» وتولية «عبدالله بن المعتز»؛ فما كان إلا أن لقوا مقاومة من الوزير «العباس» أدت إلى مقتله عام 296هـ (908م)، ثم خلعوا الخليفة «المقتدر» من الخلافة، وبايعوا «عبدالله بن المعتز» وأُطلق عليه اسم «الغالب بالله».
وقد أراد «المقتدر» أن يرحل عن «بغداد» تاركًا أمور الحكم والخلافة للخليفة الجديد، لٰكن أصدقاءه أشار عليه بالقتال، وهجموا على دار «ابن المعتز» فخرج من «بغداد»؛ وعاد العرش إلى «المقتدر»، و… الحديث عن «مِصر الحُلوة» لا ينتهى.
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأُرثوذكسى