تحدثنا فى المقالة السابقة عن مدة حكم «عيسى النُّوشَرى» الثانية، ووفاة الخليفة «المكتفى»، وتولى الخليفة «جعفر المقتدر بالله» أمور الحكم وهو ما زال صبيًّا لم يتعدَّ الثالثة عشْرة.
لكن ثورة قد قامت على «المقتدر» حيث يذكر لنا المؤرخ الشيخ محمد «الخضرى»: «وكأن ذلك لم يرُقْ للناس لصغر سن «المقتدر»؛ فاجتمع القواد والقضاة والكتاب مع الوزير «العباس بن الحسن»، واتفقوا على خلع «المقتدر» وتولية «عبدالله بن المعتز».. وفى غده خلعوا «المقتدر» وبايعوا لـ«ابن المعتز».. وكُتبت الكتب بذلك إلى العمال، ووجّه المقتدر يأمره بالانتقال من دار الخلافة فأجابه بالسمع والطاعة، وسأل الإمهال إلى الليل»، إلا أن الذين بقوا مع «المقتدر» من أصدقائه ومناصريه لم يقبلوا بتسليم الخلافة إلى آخر، وأشاروا عليه بقتال «ابن المعتز» والهجوم على داره فى المساء فوافقهم وأمدهم بالسلاح؛ وعندما رأى أنصار «ابن المعتز» ذلك هربوا وبقى وحده فهرب مختفيًا فى إحدى الدور. وقامت الفتن وساد النهب وعم القتل فى «بغداد»، واعتدى اللصوص على الأموال والأعراض. فى تلك الأثناء، خرج «المقتدر» بجنوده فقبض على «ابن المعتز» وسجنه حتى مماته، ثم قتل جميع أعوانه؛ وبذلك لم يستمر «ابن المعتز» فى الخلافة سوى يوم بليلاه خُلع بعده ومات، وقُتل ابنه وبعض من القضاة والفقهاء الذين اتفقوا على خلع «المقتدر»؛ وهكذا أعيد «المقتدر» إلى الخلافة. اتسمت الخلافة منذ عهد «المقتدر» بضعفها فيذكر «الخضرى»: «وانتهت بذلك هذه الفتنة التى بها ابتدأ ضعف الخلافة وسقوط هيبتها. واشتد الانتكاس فى عهد «المقتدر» حتى لم يعُد للخلافة أدنى سلطان ولا احترام! فإن المقتدر حين وُلى كان شابًّا غِرًّا (جاهلا غافلا) لا يعرِف من السياسة ولا من الشجاعة شيئًا…»؛ إضافة إلى ذلك تدخل كل من أمه ومدبرة الشُّؤون الداخلية لبيت الخلافة فى أمور الحكم، وانتشار الرشوة للوصول إلى المناصب والأعمال؛ فقد تقلد الوَزارة فى عهده اثنا عشَر وزيرًا منهم من تقلدها مرتين وثلاث! ولم يكُن الصالح يبقى فى العمل كثيرًا لأن مدار طول المدة كان على رضا أم «المقتدر» وقهرمانته (مدبرة بيته ومتولية شُؤونه) وخدام الدار… وهذه حال أخلقت (أبْلَت) ديباجة الدولة، وأسقطت حرمتها، حتى لم يكُن لها فى نظر العامة ولا فى نظر متغلبى الأطراف حرمة». ويقول «ابن الأثير»: «ثم زاد الأمر حتى تحكَّم أصحابه، فكانوا يُطلقون الأموال ويُفسدون الأحوال؛ فانحلت القواعد وخبُثت النيات، واشتغل الخليفة بعزل وزرائه والقبض عليهم، والرُّجوع إلى قول النساء والخدم، والتصرف على مقتضى آرائهن؛ فخرجت (تمردت) الممالك وطمِع العمال فى الأطراف». وزاد من سوء الأمور أن قوة «القرامطة» أخذت تزداد فى عصر «المقتدر» ما أدى إلى إخلال الأمن فى كل من «العراق» و«الحجاز»، وقد استولَوا على عدد من البلاد منها «هَجَر» و«الأَحْساء» و«القطيف» وغيرها. ثم قام «القرامطة» بمحاولة غزو «بغداد» عدة مرات حتى تمكنوا من دخولها عام ٣١١هـ (٩٢٣م) فقتلوا من أهلها ونهَبوا أموالهم؛ ثم عادوا إلى قوافل الحجاج عند عودتهم من «مكة» ونهَبوا وأسروا عددًا كبيرًا، وقد مات أكثر من تُركوا جوعًا وعطشًا فى الصحراء؛ وعلِم أهل بغداد بما جرى وغضِبوا غضبًا شديدًا. وكتب «المقتدر» إلى رئيس القرامطة «أبى طاهر» ليُطلِق ما لديه من أسرى فاستجاب لطلبه، ثم طلب ولاية «البصرة» و«الأهواز» لكن الخليفة «المقتدر» لم يُجِبه طلبه، بل بدأ فى إرسال الحكام والجيوش فى محاربته جيشًا تلو الآخر، و… والحديث عن «مِصر الحُلوة» لا ينتهى..!
الأُسقف العام ورئيس المركز الثقافى القبطى الأُرثوذكسى