تحدثنا في المقالة السابقة عن “الإسكندر سويرس قيصر” الذي اهتم ببناء الإمبراطورية راعيًا شعبه، عاملًا لما يؤول لمصلحته، كما كان يرعى الموهوبين من الصناع، وكانت مِصر في أيامه في ازدهار ورقي وتقدم. وحكم من بعده “ماكسيمينوس قيصر”. أول “أباطرة الثُّكْنات” ـ الأباطرة العسكريين الذين حكموا روما من 235م ـ 284م ـ الذي خلعه الشعب فتولى الحكم الإمبراطور “جورديان الأب” مشاركًا إياه “جورديان الإبن”. إلا أنهما قُتلا في معركتهما ضد “كابيليانوس” أحد الوِلاة الرومانيين. فتولى الحكم من بعدهما “بوبيانوس” و “بوبينوس”، وحاول “ماكسيمينوس دخول روما لمحاربتهما فلم يستطِع وقام عليه جنوده وقتلوه. وبعد مقتل كل من “بوبيانوس وبوبينوس” تولى “جورديان الثالث” ـ حفيد جورديان الأول ـ ابن أخت جورديان الثاني ـ الحكم.
وتُعد فترة الأباطرة العسكريين ضعفُا سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا على روما، فكان الأباطرة يتولَّون الحكم بكونهم قوادًا للحرس الإمبراطوريّ الرومانيّ. ومن الصعب تتبع أعمال كثير من هؤلاء الأباطرة لسرعة تغيرهم على العرش؛ فمنهم من لم يلبَث على العرش سوى أشهر. وفي هٰذه الفترة، تضاءل تأثير مصر السياسيّ، أمّا تأثير مِصر الاقتصادي في روما فكان كبيرًا ـ سلبًا ـ بسبب انتشار الفقر وانخفاض الإنتاج الزراعيّ؛ فلم تقدِّم مِصر إلى روما إنتاج القمح الذي كانت تعتمد عليه، وكذٰلك تأثرت الضرائب، مما أدى إلى تجنب روما حروبًا قد تدفعها إلى إنفاق أموال هي في حاجة إليها.
“جورديان الثالث قيصر” (238 – 244م)
نُصِّب إمبراطورًا على روما وهو في الثالثة عشْرة! وذٰلك لمحبة الجنود ومجلس الشيوخ لعائلته، وقد عاونه في إدارة شؤون البلاد مجلس الشيوخ ووالدته.
وقد سارت أمور البلاد على ما يرام داخليًا كما هي في مواجهة الأخطار الخارجية. وفي سنة 240م، ثار “ماركوس أثينيوس سابينيانوس” ـ حاكم مقاطعة أفريقيا ـ عليه معلنًا نفسه إمبراطورًا، إلا أنه قد أُخمدت ثورته بنجاح.
ثم في سنة 241م، عين “جورديان الثالث” قائدًا للحرس الإمبراطوريّ يُدعى “تيميسيوس”، الذي تزوج “جورديان” فيما بعد بابنته. وقد كان دور “تيميسيوس” في هٰذه الفترة هامًا؛ فقد هاجمت جيوش الفرس أراضي الإمبراطورية الرومانية في الشرق، فأعد “جورديان” و”تيميسيوس” جيشًا لصد العُدوان، وهزموا الفرس هزيمة نَكراء.
وفي تلك الأثناء، مرِض “تيميسيوس” ومات، فعُين نائبه “فيليب” الذي كان من أصل عربيّ. وأُشيع أن “فيليب” دس السُِّم له وقتله ليصير هو قائد الحرس الإمبراطوريّ. إلا أن مطامع “فيليب” كانت أكثر بكثير؛ فقد كان يرغب في حكم الإمبراطورية، فعمِل على تحقيق هٰذا بزرع الفتن والخلافات بين الجنود حتى قتلوا الإمبراطور “جورديان الثالث”، وتولى هو عرش روما.
ولم يكُن لمِصر أي دَور في الأحداث التي تشهدها الإمبراطورية آنذاك، بل كانت مستعدة لقَبول أي انسان يحكم الإمبراطورية.
“فيليب قيصر” (244 – 249م)
عُرف باسم “فيليب العربيّ” لمولده في المقاطعة الرومانية العربية. وقد صار مسؤولًا في الحرس الجمهوريّ حتى أصبح قيصر روما. وقد نظّم في مدة حكمه الاحتفال بمرور 1000 سنة على تأسيس روما. وبين سنتَي 245 و246م غادر روما ليقود الجيش ضد القبائل الجرمانية ـ قبائل سكنت في المناطق المحاذية للإمبراطورية الرومانية كانت دائمة الإغارة عليها. وفي سنة 247م أشرك “فيليب قيصر” ابنه معه في حكم روما فقام بتعيينه قيصرًا. وفي سنة 248م أرسل فيليب أحد قواده ويُدعى “دكيوس أو ديسيوس” لتدريب الجيوش الرومانية في الدانوب، إلا أنه أُعلن إمبراطورًا من قِبل هٰذه الجيوش، فقاد “فيليب” جيوشه ضده ليتقاتلا قرب مدينة ڤيرونا فقضى نحبه هناك. إلا أنه لم يتأكد تاريخيًا موت “فيليب” في المعركة أو قتله على يد جنوده.
وقد كان “فيليب قيصر” متسامحًا رحيمًا عادلًا مع المَسيحيِّين، وسمَح لهم بإقامة شعارئهم الدينية بحرية تامة، مما أدى فيما بعد إلى اضطهاد شديد وقع عليهم على يد “دكيوس” الذي خلفه على العرش. فقد ذكر بعض المؤرخين أن كراهية “دكيوس” الشديدة لسلفه “فيليب” كانت سببًا من أسباب اضطهاده المسيحيِّين.
أمّا عن مِصر في أيام حكمه، فقد شهِد الجنوب بعض الاضطرابات التي سببتها قبائل النوبة بإغارتها على جنوب أُسوان، إلا أن السلطات الرومانية تصدت لها حتى غادرت الحدود المِصرية.
“دكيوس قيصر” (249 – 251م)
تعود أصول “دكيوس قيصر” إلى النمسا. ولم تكُن عائلته من العائلات المعروفة، ومع هٰذا تولى منصب القنصلية؛ لعلمه وآدابه ومهاراته الشخصية. ويذكر التاريخ عن “دكيوس” أنه كان سافك دماء، ممتلئًا من الغدر والخيانة. وقد امتلأت أيامه من الفتن والمِحن والاضطرابات والانقسامات حتى أريق فيها دماء كثيرة.
وقد تعرض لحروب كثيرة من الأمم المتاخمة للإمبراطورية، التي اتحدت عليه، فسار لمحاربتها بجيش عظيم، فانتصر عليها في بادئ الأمر حتى طلبت الصلح، ولكنْ غروره وكبرياؤه أبَيا ألا يقبل، فاستمرت المعارك إلى أن هُزم شر هزيمة وهلك هو ومعظم جيوشه.
ومن فظائعه أنه اضطهد المسيحيِّين بطريقة لم يكُن لها مثيل؛ حتى إن بعض المؤرخين ذكروا مدة حكمه بكونها أول مواجهة بين الأباطرة الرومان والمسيحيِّين من بعد “نيرون”. ففي سنة 250م أصدر مرسومًا إلى جميع الحكام في أنحاء الإمبراطورية؛ بضرورة العمل على إعادة ديانة الدولة الوثنية مهما كلفهم الأمر. وكانت أولى نتائج هٰذا المرسوم ـ الذي يُعد أول اضطهاد شامل للمسيحية في أنحاء الإمبراطورية كلها ـ بعد أن كان الاضطهاد يتغير من مكان لآخر ومن زمان لآخر بحسب حاكم الولاية ـ أنْ قُتل مسيحيون كُثر؛ فمنهم: من صُلِّبوا، ومن قُطِّعت أعضاؤهم، ومن مُشِّطت أجسادهم بسنون حديدية، ومن سُلبت ديارهم؛ و ذاقوا ما لا طاقة لبشر به!
وقد فرض “دكيوس” على المصريِّين تقديم الإثبات ـ وثيقة موقَّعة بأنهم قدموا القرابين على المذبح الامبراطوريّ لتأكيد خضوعهم وعبادتهم للإمبراطور ـ ومن يمتنع فمصيره الموت. فلم يكُن أمام المسيحيّ سوى الاختيار بين إمّا أداء هٰذه الطقوس الوثنية وتقديم الذبيحة للآلهة الوثنية ـ ما يُعد شهادةً على إخلاصهم للامبراطور وللإمبراطورية، وإما الموت. وقد عُثر على آثار تحوي بعضًا من هٰذه الشهادات في الفيوم، وكانت تحوي ما يلي:-
أولًا: صورة الطلب المقدَّم من الشخص: [إلى مأموري الذبائح في قرية جزيرة إسكندر: من “أوريليوس ديوجنيس بن ستابوس” من قرية جزيرة إسكندر ـ السن 72 ـ بنَدَب (أثر جُرح) على الحاجب الأيمن. لقد كنتُ أضحي دائمًا للآلهة، وفعلتُ ذٰلك الآن في حضوركم طبقًا لنص المرسوم. لقد قمتُ بالتضحية، وسكبتُ السكائب، وذقتُ الذبائح. وألتمس أن تشهدوا بذٰلك، والسلام].
ثانيًا: توقيع مقدِّم الذبيحة: [مقدِّمه “أوريليوس ديوجنيس”]. ثالثًا: في الختام، توقيع الحاكم الذي شاهد الذبيحة التي قدَّمها هٰذا الإنسان وتوقيعه وتاريخ الحدث: [أشهد أني رأيتُه يقدم ذبيحة. أوريليوس سيرس. تحريرًا في اليوم الثاني من أبيب (الـ26 من يونيو سنة 250م) في السنة الأولى للامبراطور “دكيوس”].
وقد كانت السلطات تستخدم قسوة أشد وطأة في اضطهادها على رؤساء الكنائس وخدامها. ويذكر التاريخ أن من بين الذين استُشهدوا في فترة الاضطهاد هٰذه: القديس “فيلوپاتير مِرقوريوس أبو السيفين”، و”فابيانوس الرومانيّ”، و”بابيلاس الأنطاكيّ”، و”إسكندر الأورُشَليميّ”.
وُلد “فيلوپاتير” ـ ومعناها محب الآب ـ سنة 224 م تقريبًا من أبوين وثنيَّين. وكان أبوه “جورديانوس” ضابطًا رومانيًا، وهو جنديّ ناجح شجاع، وكان قد آمن بالمسيحية في إحدى رِحلات الصيد عندما أنقذه الله من وحشين غريبين. فلما عاد “جورديانوس”، اعتمد هو وأهل بيته. ولما شاع خبر اعتناق الأسرة للمسيحية ووصل للأمير، استدعاه وعائلته وألقاهم للوحوش….. و … والحديث عن مصر لا ينتهي،،،،
الأسقف العام ورئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأرثوذكسيّ