تحدثنا بمقالة سابقة بتولى «أحمد بن كَيغَلَغ» حكم «مِصر» واستبعاده بعد سبعة أشهر، وحكم «تِكِين بن عبدالله» مرةً رابعةً، حتى تُوفى وقت حكم الخليفة «القاهر» (320-322هـ) (932-943م) الذى اعتلى العرش بعد قتل أخيه «المعتضد» والذى ساءت أحوال الدولة العباسية فى عهده حتى آلت إلى محاولة تدبير مؤامرة لخلعه، لٰكنها فشِلت إذ علِم «القاهر» بأمرها وألقى القبض على رؤسائها وقتلهم جميعًا. ولم يرتدع «القاهر» عن قسوته وشدته اللتين أثارتا حنَق الجميع. وفى تلك الأثناء، نجح الوزير «ابن مُقْلَة» فى استمالة الجند إليه، واتفق هو والقوات على خلع «القاهر»، وتحقق له ذٰلك فيذكر المؤرخون: «ودخلوا عليه ذات ليلة، وكان مخمورًا، وطلبوا إليه التنازل عن العرش؛ ولما امتنع قبضوا عليه وسملوا (فقؤوا) عينيه وسجنوه.»؛ وهٰكذا انتهت أيام حكم «القاهر» بعد أن استمرت عامًا وستة أشهر تقريبًا قيل عنها: «وكانت جامعة للمعايب والقبائح»! ثم خلفه «أبوالعباس أحمد بن المقتدر الراضى».
«أبوالعباس أحمد بن المقتدر الراضى» ( 322-329هـ) (934-940م)
تولى الخليفة «الراضى» أمور الحكم بعد خلع «القاهر» حيث قيام القواد بإخراجه من السجن إلا أن عهده لم يكُن أحسن حالاً بل يقدم لنا المؤرخون لمحة عن عصره: «وقد ازدادت الحالة اضطرابًا فى عهده، وضعُفت الخلافة العباسية ضَعفًا كبيرًا، وتضاءلت قوة الخليفة حتى أصبحت لا تتعدى «بغداد» وما جاورها من البُلدان القريبة…». أدت تلك الحالة من الضَّعف إلى وقوع كثير من الاضطرابات، ومحاولة حكام الأقاليم الاستقلال ببلادهم ولا سيما حكام «الأندلس» الأمويِّين فقام «عبدالرحمٰن الناصر الأمويّ» بإعلان نفسه خليفةً ببلاد «الأندلس» و«شَمال أفريقية». كذٰلك نشطت كل من «الدولة العبيدية» بـ«المغرب» متحركةً صوب «مِصر» للاستيلاء عليها، واستولى بنو «بُوَيه»، ثلاثة من أبناء أبوشجاع «بُوَيه» مؤسسى الدولة البويهية، على عدد كبير من بلاد الجبال و«الأهواز» فى بلاد «الدَّيلَم». كذٰلك قام«ابن رائق» والى «البصرة»، و«البريديّ» والى «الأهواز» بقطع الأموال عن الخليفة. ولم تكُن الأمور الداخلية أحسن حالاً إذ لم تهدأ الصراعات بقصر الخليفة بين كل من وزيره وحاجبه؛ فاضطربت البلاد وتفشت المكائد.
وبين تلك القلاقل والاضطرابات، عرض الخليفة «الراضى» على «ابن رائق» حكم «بغداد» فوافق وجاء إليها ولُقب بـ«أمير الأمراء»؛ وأدى ذٰلك إلى توقف الدواوين والوزارات إذ كان الحكم فى أمور الدولة لـ«ابن رائق» وكاتبه. إلا أن الأمور ازدادت سوءًا عندما تفاقمت الصراعات بين «ابن رائق» و«البريديّ» الذى أُرسلت الجيوش لمحاربته. نجحت جيوش «الراضى» فى الاستيلاء على أهم مواقع «الأهواز»؛ ففر «البريدي» إلى «البصرة» حيث ازدادت قوته بانضمام أعيانها إليه. وقامت محاربات شديدة بين قوات الخليفة و«البريديّ» انتهت بغلبة «البريديّ» وتمكنه من استرداد بلاد «الأهواز».
وتصارع «ابن رائق» و«بَجْكَم» حاكم «واسِط» الذى تمكن من تدبير المؤامرات لـه حتى صار «أمير الأمراء» بدلاً عنه؛ فترك «واسِط» وقدِم إلى «بغداد» ودخلها بعد انتصاره على جنود «ابن رائق» عام 326هـ (938م) الذى هرب مختفيًا. وفى العام التالى، انتهز «ابن رائق» فرصة انشغال الخليفة «الراضي» و«بَجْكَم» بالخروج إلى حرب حاكم «بنى حمدان» بـ«الموصل»، وعاد إلى «بغداد» واستولى عليها. وعندما بلغ «الراضي» أمر سقوط «بغداد»، أسرع بالعودة مع «بَجْكَم»، ثم عُقد صلح بين «الراضى» و«ابن رائق» وعُين واليًا على «سوريا» والشَّمال.
أمّا «مِصر» فكانت تجتاحها الاضطرابات والحُروب منذ سقوط «الدولة الطولونية». وعلى الرغم من عودة «مِصر» لحكم «الدولة العباسية»، فإن الضَّعف والاضطرابات اللذين تحدثنا عنهما لم يجعلا للعباسيِّين سلطانًا كبيرًا على «مِصر» ما أدى إلى انتشار الفوضى بها، و… والحديث عن «مِصر الحُلوة» لا ينتهى!
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأُرثوذكسى