تحدثنا بالمقالة السابقة عن اضطراب الأحوال فى «مِصر»، وتعيين الخليفة لـ«مُحمد بن طُغْچ» حاكمًا لها ثم عزَله بـ«أحمد بن كَيْغَلَغ» الذى اتسمت أيام حكمه بنشوب الفتن والحروب والصراعات ووقوع زلازل عظيمة. وعند تولى الخليفة «الراضى»، ولى «مُحمد بن طُغْچ» على «مِصر» مرة ثانية.
ولاية «مُحمد بن طُغْچ الإخشيد» الثانية (323- 334هـ) (935- 946م)
هو مؤسس «الدولة الإخشيدية» بـ«مِصر»، أما «الإخشيد»، فهو لقب فارسى قديم كان يلقَّب به ملوك «فَرْغانة». وقد ذكر «ابن التَّغرى» أن «الإخشيد» (أو الإخشيذ) بلغة «الفَرْغانة»، وتعنى: «ملك الملوك»؛ وقد أنعم الخليفة «الراضى» بهٰذا اللقب على مُحمد بن طُغْچ بن جُفْ، عام 327هـ (939م) فى ولايته الثانية على مِصر.
وفى أثناء حكم مُحمد بن طُغْچ، أشعل مناصرو أحمد بن كَيْغَلَغ فتنة أسفر عنها وقوع حروب بين الفريقين انتهت بهزيمة أصحاب ابن كَيْغَلَغ، فغادروا مِصر متجهين إلى بَرْقة ومنها إلى المغرب، حيث أخذوا يحُثون القائم بأمر الله بن المهدى الفاطمى على أخذ مِصر، فأعد الجيوش للحرب؛ وعندما وصلت تلك الأخبار إلى الإخشيد، هيأ جيوشه لقتالهم؛ وفى تلك الأثناء وصلت إلى الإخشيد رسالة من الخليفة العباسى بخروج مُحمد بن رائق إلى الشام، فوُلى على حلب، لٰكنه أراد حكم بلاد الشام بأسرها، وأرسل إلى الإخشيد يطالبه بجزية عن الممتلكات الإخشيدية فى الشام؛ فحاول استرضاءه لٰكنه لم يُفلح كثيرًا فى الحد من مطامعه. استولى ابن رائق على حمص ودمشق والرَّمْلة، ثم توجه نحو العريش راغبًا فى الاستيلاء على مِصر.
أرسل الإخشيد إلى الخليفة العباسى يخبره بأمر ابن رائق وبمطامعه، ويطلب معرفة أكان قد ولاه أمور تلك البلاد، أم يتقدم إلى مواجهته وقتاله متى جاءه تكليف منه بذٰلك الأمر؛ عند وصول رسالة الإخشيد إلى الخليفة، ترك اتخاذ القرار لأمير الأمراء الذى أعلن أن القرار سيكون لمن له الغلبة فى القتال. غضِب الإخشيد من موقف الخليفة العباسى ورغِب فى الاستقلال عن الخلافة العباسية والالتجاء إلى الفاطميِّين، لٰكنه عدَل عن الفكرة، وبدأ الإعداد لقتال ابن رائق بحرًا وبرًّا عام 328هـ (939م) حيث أقام فى الفرَما، فى حين أقام ابن رائق بالرَّمْلة.
وبعد عدد من المناوشات، سعى بعضٌ للصلح بين الطرفين فاتفقا على أن تكون الرَّمْلة فى حكم الإخشيد فى الوقت الذى تكون طبريا وما بعدها إلى الشَّمال فى حكم ابن رائق، وعاد الإخشيد لمِصر. إلا أن ابن رائق لم يلتزم بتلك المعاهدة، فتقدم بقواته إلى مِصر؛ وما إن علِم الإخشيد بذٰلك حتى سارع بقتال ابن رائق قتالاً شديدًا فى العريش انتهى بهزيمة الأول، لٰكنه سرعان ما استطاع تنظيم قواته، على حين كان جنود ابن رائق منهمكين فى سلب الغنائم؛ فأضحى نصرهم إلى هزيمة بعد أن قُتلت منهم وأُسرت أعداد كبيرة؛ وهرب ابن رائق مع عدد من أصحابه؛ وتتبعهم أخو الإخشيد وكان يُدعى أبا نصر الحُسين، لٰكن قُتل وأُسر بعض رجاله عندما فاجأتهم قوات ابن رائق؛ وقد آلت تلك الأمور فيما بعد إلى تجديد الصلح بين الفريقين!
فيذكر ابن التَّغرى: وكان لما قُتل «الحسين بن طُغْچ» أخو «الإخشيد» فى المعركة، عز ذٰلك على «مُحمد بن رائق» وأخذه وكفنه وحنطه وأنفذ (أرسل) معه ابنه «مزاحمًا» إلى «الإخشيد» وكتب معه كتابًا يعزيه فيه، ويعتذر إليه، ويحلف له أنه ما أراد قتله، وأنه أرسل ابنه «مزاحمًا» إليه ليفتديه بـ«الحسين بن طُغْچ» إن أحب «الإخشيد» ذٰلك؛ تأثر الإخشيد من ذٰلك، واستقبل مزاحمًا مرحبًا ورده إلى أبيه؛ واصطلح الخَصمان على أن تكون الرَّمْلة لحكم الإخشيد فى مقابل مائة وأربعين ألف دينار كل عام، فى حين يحكم ابن رائق بقية الشام، مع الإفراج عن الأسرى من الجانبين. و… والحديث عن مِصر الحُلوة لا ينتهى!
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأُرثوذكسى