تحدثنا بالمقالة السابقة عن ولاية «مُحمد بن طُغچ الإخشيد» الثانية لـ«مِصر»، ومقاومة أنصار «أحمد بن كَيْغَلَغ» له، ووقوع حروب انتهت بهزيمة أصحاب «ابن كَيْغَلَغ» فأسرعوا إلى «الفاطميِّين» يشجعونهم على غزو «مِصر». وأشرنا إلى محاولة «ابن رائق» الاعتداء على «مِصر» ولذٰلك وقعت حُروب كثيرة آلت فى نهاية الأمر إلى عقد مصالحة بين الطرفين، حيث عاد «ابن رائق» إلى «الشام»، فى حين عاد «الإخشيد» إلى «مِصر». ولم يمضِ وقت طويل حتى وصل إلى «الإخشيد» خبر موت الخليفة «الراضى» ـ عام 329هـ (940م) ـ وتولى أخيه «المتقى بالله» أمور الحكم، وقد أقر «المتقى» حكم «الإخشيد» على «مِصر» فظل متوليًا إدارة شُؤونها.
وفى عام 330هـ (941م) قُتل «ابن رائق» فى بلاد «الشام» فخرج «الإخشيد» على رأس جيوشه إليها، تاركًا أخاه «المظفر» لإدارة شُؤون «مِصر» نائبًا عنه؛ وقد استولى على «دمشق» ماكثًا قرابة العام حتى استتبت الأمور بها، وعاد إلى «مِصر». وعام 332هـ (944م) علِم «الإخشيد» بخروج الخليفة «المتقى» إلى بلاد «الشام» فخرج إليه والتقاه فى «الرَّقة»، مقدمًا له التحف والهدايا عارضًا معاونته على «توزون» أمير الأمراء آنذاك فلم يقبل الخليفة، وعاد «الإخشيد» إلى «مِصر» عام 333هـ (945م). ولم يمضِ وقت طويل حتى خُلع الخليفة «المتقى»، وتولى «المستكفى» بدلًا منه.
ومع نهاية العام شبت منازعات وخلافات بين «الإخشيد» و«سيف الدولة بن حمدان» على بلاد «الشام» إلا أنهما اتفقا أخيرًا على أن يحكم «سيف الدولة» على «حلب» و«أنطاكية» و«حِمص»، ويحكم «الإخشيد» بقية بلاد «الشام». ثم عادت الخلافات للظهور مرة ثانية فخرج «الإخشيد» على رأس جُيوشه لمحاربة «سيف الدولة»، حيث هزمه واسترد «حلب»؛ وهناك بلغه خبر خلع الخليفة «المستكفي» وأن الحكم قد تولاه «المطيع لله الفضل» الذى أقر «الإخشيد» فى حكم «مِصر» و«الشام»، فعاد «الإخشيد» إلى «دمشق»، لٰكنه مرَض ومات وكان ذٰلك عام 334هـ (946م)؛ تولى حكم «مِصر» من بعده ابنه «أبوالقاسم أُنُوچُور» باستخلاف أبيه إياه. وقد امتدت مدة حكم «الإخشيد» على «مِصر» فى الولاية الثانية قرابة إحدى عشْرة سنة وثلاثة أشهر. ويذكر المؤرخون عن «الإخشيد» أنه كان: «ملكًا شجاعًا، مِقدامًا، حازمًا، متيقظًا، حسَن التدبير، عارفًا بالحروب، مكرمًا للجند، شديد البطش، ذا قوة مفرِطة، لا يكاد أحد يجُرّ (يجذِب) قوسه! وله هيبة عظيمة فى قلوب الرعية، وكان متجملاً فى مَركَبه (رُكوبه) وملبَسه، وكان موكبه يضاهى موكب الخلافة».
أمّا عن «الكنيسة القبطية» فى تلك الأثناء، فقد تولى «البابا مقار الأول» رئاستها بعد انتقال «البابا قزمان الثالث» بطريركها الثامن والخمسين من العالم.
«البابا مقار الأول» (933- 953م)
هو التاسع والخمسون فى بطاركة الإسكندرية. اعتلى السُّدة المرقسية عام 933م. وُلد الأب «مكاريوس» بقرية «شبرا» قرب «الإسكندرية»، وكان حيدًا لأمه العجوز. وكان بعد حين أنه اشتاق إلى حياة الرهبنة، فتحققت رغبته بـ«دير القديس مكاريوس» بجبل شيهيت (وادى النطرون) فى سن صغيرة. سلك فى حياة صالحة مقدسة إلى أن اختير بطريركًا على كرسيّ «مار مرقس الرسول» عام 933م فى وقت خلافة «القاهر». بعد سيامته البطريركية، انطلق إلى الدير لقضاء فترة خُلوة كما كان يفعل أسلافه من الآباء البطاركة. وحدث أنه مر ببلدته وكانت والدته لا تزال تقيم بالقرية، وكان «البابا مقار» يُجلها ويحبها محبة كبيرة جدًّا إذ اهتمت بتهذيبه، فقرر أن يحضر إلى القرية لزيارتها ويُبهجها بما وصل إليه من مركز ومكانة.
قدِم «البابا مقار» إلى بلدته مع حاشيته و… والحديث عن «مِصر الحُلوة» لا ينتهى!
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأُرثوذكسى