استكملنا بالمقالة السابقة الحديث عن ولاية «مُحمد بن طُغْچ الإخشيد» الثانية لـ«مِصر» حتى مرَض ومات عام 334هـ (946م)؛ وبدأنا الحديث عن التاسع والخمسين فى بطاركة الإسكندرية: «البابا مقار الأول»، الذى سيم راهبًا بـ«دير القديس مكاريوس» حتى اختير بطريركًا للكرازة المرقسية عام 933م.
وكان من أمر «البابا مقار» أنه قرر ذات يوم أن يحضر إلى قرية ميلاده وتنشئته لزيارة والدته وليزُف إليها أنباء توليه رئاسة الكنيسة، فما إن دخل بلدته مع حاشيته، حتى أسرع أحد أهلها إلى بيت والدته، يعلمها بخبر قدوم ابنها فى موكبه، فلم تهتم بكلماته واستمرت فى إتمام عملها، ودُموعها تنهمر!! دُهش الرجل وغادر دارها. وفى تلك الأثناء، أقيمت فى القرية الاحتفالات بقدوم البابا، فمكث بها حتى انتهت، ثم اتجه إلى منزل والدته؛ ويصف لنا «القمص مَنَسَّى يوحنا» ذلك اللقاء:
«فلما وصل إليها، رآها وهى تغزل، ولم تتحرك من مكانها، فقط رفعت نظرها إليه مرة واحدة وعادت إلى عملها، وقد أرسلت من عينيها دمعتين حارتين دون أن تفوه بكلمة. فتقدم إليها بالسلام فردت عليه، واستمرت فى شغلها! فظن أنها لم تتعرّفه، وتجهل مركزه السامى الذى وصل إليه، فقال لها: «اعلمى يا أماه أننى ولدك (مقار) الذى ارتقى إلى أشرف رتبة فى الكنيسة، وقد صرت بطريركًا. فابتهجى وسُرى بما أحرز ابنك من المقام الرفيع». فرفعت عينها إليه والدُّموع تتساقط منها بغزارة، وقالت له، وهى تجهش فى البكاء: «كنت أتمنى أن أرى نعشك محمولاً على الأعناق، وخلفك النسوة يبكين حزنًا، من أن أراك متقلدًا هذه الوظيفة الخطيرة، يحيط بك الأساقفة والقُسوس!! ذلك لأنك لما كنت عَلمانيًّا، كنت مسؤولاً عن خطاياك الشخصية فقط، ولٰكنك لما صرت بطريركًا، فسوف تُسأل عن خطايا كل الشعب وزلاتهم. فتيقن أنك فى خطر عظيم هيهات أن تنجو منه بسهولة! لأنه من المعلوم أن المجد العالمىّ يحجب عن الإنسان نور الحق. فمن أين، يا ولدى تقدر أن تكون بصيرًا، وقد وضع مجد الرئاسة برقعًا على عينيك؟! فها قد أنذرتك بما أنت فيه من الخطر، فكُن محترسًا، واذكر والدتك التى تعِبت فى تربيتك».
تأثر «البابا مقار» بكلمات والدته كثيرًا، حتى ظلت محفورة نُصب عينيه طوال زمن رئاسته؛ فكانت سببًا فى حرصه الشديد على السلوك بتدقيق وأمانة فى جميع ما يفعله واعظًا ومعلِّمًا لشعبه؛ وقد ذُكر عنه أنه لم يقُم بسيامة أى إنسان إلا بتزكية، وكان يصلى ويصوم طالبًا إرشاد الله فى اختيار من يصلح لرعاية الشعب. كذلك اهتم بتوصية الرعاة من الأساقفة بالاهتمام بالشعب وحفظ الإيمان المستقيم بالوعظ والتعليم. ثم قام ببناء كنيسة على اسم «السيدة العذراء» بـ«دير أنبا يُحَنِّس كامى» الذى كان رهبانه يُضطرون إلى الذَّهاب خارجًا إلى «دير أنبا يُحَنِّس القصير» للصلاة.
استمرت رئاسة «البابا مقار الأول» تسع عشْرة سنة وأحد عشَر شهرًا وثلاثة وعشرين يومًا، وتنيح عام 953م، ثم خلفه «البابا ثاؤفانيوس» البطريرك الستون فى بطاركة الإسكندرية. عاصر «البابا مقار الأول» حكم «الإخشيد» لـ«مِصر» فى حقبة من أصعب الحقب التى مرت بالبلاد إذ امتلأت بالفوضى وبالاضطرابات بسبب انشغال الأمراء بالتنافس بعضهم مع بعض؛ فقام جنود كل منهم بالسلب والنهب والقتل ما أثار الذعر بين الرعية. ويُذكر أن بعض الشهب قد سقطت آنذاك مما زاد من هلع المِصريِّين الذين تدفقوا إلى الكنائس والجوامع طلبًا لمراحم الله. وبعد أن عُين «الإخشيد»، أعاد للبلاد هدوءها واستقرارها مدة توليه الحكم حتى تُوفى عام 334هـ (946م)؛ كما عاصر البابا «مقار الأول» زمنًا من ولاية «أُنُوچور بن الإخشيد» الذى تولى حكم «مِصر» من بعد والده. و… والحديث عن «مِصر الحُلوة» لا ينتهى!.
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأُرثوذكسى