تحدثنا بالمقالة السابقة عن زيارة «البابا مقار الأول» إلى قرية ميلاده ولقائه والدته التى نبهته إلى ثقل منصبه بصفته راعيًا مسؤولاً عن رعيته، وتأثُّر البابا بكلماتها حتى إنها ظلت محفورة نُصب عينيه طوال رئاسته إلى نياحته عام 953م. وقد عاصر «البابا مقار الأول» حكم «الإخشيد» على «مِصر» إلى زمن من ولاية ابنه «أُنُوچُور»، كما عاصر حكم الخلفاء «الراضى» و«المتقى» و«المستكفى» وزمنًا من حكم «المطيع لله».
وقد ذكرنا أنه فى زمان حكم الخليفة «الراضى» قامت «الدولة الإخشيدية» فى «مِصر»، كما قامت «الدولة البُوَيْهية» فى المشرق. وفى زمان حكم «الراضى» أخذت المنازعات الدينية بـ«بغداد» تزداد وتتفاقم حتى شبت بعض أعمال عنف أدت إلى نشر فتن ذكر عنها المؤرخون أنها كانت سبب اضطرابات عظيمة الشأن بالبلاد آلت ببنيان «الدولة العباسية» إلى الضعف الشديد. وقد تُوفى الخليفة «الراضى» عام 329هـ (940م) بعد ست سنوات وبضعة أيام من الخلافة؛ قال عنه المؤرخون: «وكان «الراضى» سخيًّا يحب الأدباء والفضلاء؛ وهو آخر خليفة له شعر يدوَّن، وآخر خليفة خطب كثيرًا على مِنبر، وكان آخر خليفة جالس الجلساء، وآخر خليفة كانت نفقته وجِراياته (ما أجراه من رواتب) وخِزانته ومطابخه وأموره على ترتيب الخلفاء المتقدمين».
الخليفة «إبراهيم المتقى لله» (329-333هـ) (940-944م)
هو «إبراهيم بن المقتدر بن المعتضد بن أحمد الموفق» أخو الخليفة «الراضى»، وقد تلقب باسم «المتقى بالله». اختير «المتقى» بعد موت «الراضى» حيث اجتمع رجال الدولة وأجمعوا عليه لتولى شُؤونها وحكمها؛ وفى زمان خلافته زاد نفوذ أمير الأمراء «بَچْكَم» فى الدولة، ووقعت أحداث متعددة انتهت بمقتله على يد جماعة من الأكراد. وما إن علم «البَرِيدِىّ»، والى «الأهواز»، بمقتل «بَچْكَم»، حتى أسرع بالاستيلاء على «بغداد»، لٰكنه لم يتمكن من حكمها سوى بضعة أيام إذ ثار الشعب عليه وطرده منها. ثم تولى منصب أمير الأمراء أحد قواد «الدَّيْلَم» ويُدعى «كُورْتَكِين».
لم تستقر الأحوال بـ«بغداد» إذ قام جنود «الدَّيْلَم» بكثير من الاعتداءات على أهلها، ولم يتمكن «كُورْتَكِين» من الإمساك بزمام الأمور ما دفع الخليفة «المتقى» إلى استدعاء «ابن رائق» للعودة لـ«بغداد»؛ فاستجاب «ابن الرائق» لطلبه وقاتل «كُورْتَكِين» وانتصر عليه وأودعه السجن؛ فولى الخليفة منصب «أمير الأمراء» لـ«ابن الرائق». وبعد زمن يسير، أغار «البَرِيدىّ» على «بغداد» وتمكن منها ثانيةً ودخلها؛ وما إن علم «المتقى» بذٰلك حتى فر هو وابنه ومعهما «ابن رائق» إلى «الموصل» سعيًا فى طلب النجدة من «ناصر الدولة» أمير «حمدان» الذى قتل فيما بعد «ابن الرائق» طمعًا فى منصبه وبالفعل صار هو أميرا للأمراء.
تقدم «ناصر الدولة» بجيوشه إلى «بغداد» من أجل استعادتها من «البَرِيدىّ»، فهرب «البَريدِىّ» إلى «واسِط» فرًّا من مواجهة الجيوش الكثيفة التى أتت عليه، ثم التقت الجيوش فى معارك ضارية انتهت بهزيمته. وكان بعد ذٰلك أن «ناصر الدولة» ترك «بغداد» عائدًا إلى بلاد «الموصل»، فتولى منصب «أمير الأمراء» بدلاً منه «تُوزُون» أكبر قواد «الدَّيْلَم»، لٰكنه استبد بأمور الدولة ما أدى إلى فِرار الخليفة «المتقى» من «بغداد» ولجوئه إلى أمراء «حمدان» لنجدته، إلا أن «تُوزُون» انتصر عليهم فى «الموصل» فتوجهوا إلى «الرَّقَّة»؛ وهناك التقى «الإخشيدُ» الخليفةَ وقدم له الهدايا، طالبًا إليه أن يسير معه إلى «مِصر» فلم يقبل.
عرض الخليفة «المتقى» الصلح على «تُوزُون» فقبله، لٰكنه حنث بوعوده وقبض على الخليفة! وأعمى عينيه!!، ثم خلعه وأقام أخاه «المستكفى» خليفة بدلاً منه؛ فكانت تلك نهاية خلافة «المتقى» عام 333هـ (944م) كما كانت نهاية عصر «الأتراك»؛ ليبدأ معها عصر جديد عُرف باسم «عصر نفوذ آل بُوَيه». و… والحديث فى «مِصر الحُلوة» لا ينتهى!.
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأُرثوذكسى