تحدثنا بالمقالة السابقة عن زمان حكم الخليفة «الراضى»، وأخيه الخليفة «المتقى لله» (329 – 333هـ) (940- م) الذى خلعه «توزون» أمير الأمراء وأقام أخاه «المستكفى» خليفة بدلاً عنه، والذى انتهى معه عصر «الأتراك»، وبدأ عصر «آل بُوَيه» الذى استمر قرابة قرن من الزمان (334 – 447هـ) (946 – 1055م). لم تطُل مدة حكم «المستكفى»، فقد تبوأ عرش الخلافة عامًا وأربعة أشهر تقريبًا؛ ويذكر المؤرخون عنه: «وكان مغلوبًا على أمره. إذ كان الأمر كله بيد «توزون» أمير الأمراء، وكان الخليفة ضعيفًا لا يستطيع أن يرد لأمير أمرائه رأيًا أو ينقض أمرًا.. فوصلت الخلافة فى عهده إلى درجة خطيرة من الانحطاط..»!! وفى عام 334هـ (946م)، مات «توزون» فى «بغداد»؛ فاختار الجند أحد قوادهم ويُدعى «ابن شيرزاد» ليكون أميرًا، فقدِم إلى «بغداد» وولاه الخليفة «المستكفى» أميرًا للأمراء. لم تكُن الأمور فى «بغداد» مستقرة، وتعرضت للحصار من جميع الجهات، وساءت الأحوال بأهلها جدًّا: فقد قُطع عنهم الطعام وجاع الشعب، وكثرت أعمال السرقة والنهب، وهاجر كثيرون إلى المدن المجاورة. ومع ازدياد الأحوال سوءًا وخطورتها، أرسل «ابن شيرزاد» إلى أمير بنى حمدان «ناصر الدولة» يطلب منه النجدة فى مقابل التنازل له عن منصبه، فلم يتمكن من معاونته بسبب انشغاله بالحروب دفاعًا عن «أذَرْبَيجان» التى تعرضت للإغارات، إضافة إلى حروبه مع «الإخشيديِّين» فى «الشام». وفى تلك الأثناء، تمكن «أحمد بن بُوَيه» من الاستيلاء على مدينة «واسِط»، ثم توجه إلى «بغداد» للاستيلاء عليها؛ وعند اقترابه من المدينة هرب الخليفة ومعه أمير أمرائه، كما فر الجنود الأتراك إلى بلاد «الموصل».
«معز الدولة بن بُوَيه»
قدِم «أحمد بن بُوَيه» إلى «بغداد» عام 334هـ (946م)، والتقى الخليفة «المستكفي» وبايعه، فى حين أمر «المستكفي» بوضع ألقاب «بنى بُوَيه» على العملة، ولُقب «أحمد بن بُوَيه» باسم «معز الدولة»، وأخوه «على» بلقب «عماد الدولة»، وأخوه «الحسن» بـ«ركن الدولة». ومنذ ذٰلك الحين لم يعُد للخليفة أى سلطان فى الدولة، بل كان «بنو بُوَيه» المتحكمين فى جميع شُؤونها مدة امتدت إلى قرن، استطاعوا فيها القضاء على نفوذ الأتراك، وطرد «بنى حمدان» من «الموصل»، وحكم الجزيرة و«العراق» وغرب بلاد العجم. لم تطُل مدة بقاء الخليفة «المستكفي» فى الحكم سوى أربعين يومًا: إذ قام «معز الدولة» بخلعه؛ وحكم من بعده ابن عمه «الفضل» الذى أُطلق عليه لقب «المطيع بالله». حكم «المطيع بالله» قرابة تسعة وعشرين عامًا ونصف العام (334 – 363هـ) (946 – 974م) انتهت بخلعه من الحكم؛ أما عن زمان حكمه، فلم يكُن له من أمور الحكم شىء، بل كان النفوذ والسلطان والحكم الفعلى لـ«آل بُوَيه». استأثر «معز الدولة» بالسلطان، فكان هو الآمر الناهى فى شؤون الدولة، ويذكر المؤرخون عن تلك الحقبة: «وفى عصره ازداد نفوذ الجند واعتدَوا على الثروات الفردية وانتزعوها من أيدى أصحابها. وأقطع (ملَّك) (معزُّ الدولة) قوادَه وأصحابَه القرى جميعَها، فظلموا الناس، وأُهملت الزراعة، وقضى نظام الإقطاعات (تمليك قطائع من الأراضى) على رخاء العراق.. وانتشرت فى البلاد الفتن، وقامت الاضطرابات بسبب المنافسات والمنازعات بين جند الأتراك وجند (الدَّيْلَم)، وبسبب الاختلافات الدينية التى تأججت نارها بـ«بغداد» وما جاورها من بلاد (العراق)…»؛ فقد احتدت الخلافات الدينية فى «بغداد»، وانقسمت البلاد فى صراعات دائرة ذكر عنها «الخضرى بك»: «وبهذا الانقسام صارت (بغداد) وبلاد (فارس) و(الرِى) ميدانًا للاضطرابات المتكررة بين العامة، والسلطان ضلعه مع أحد الفريقين، والخليفة ضلعه مع الفريق الآخر، ومن المعلوم أن جميع العداوات يمكن تلافيها فيهون أمرها ما عدا ما منشؤه الدين منها، وأعظمها شدة ما كان بين فرقتين من دين واحد.». و… والحديث فى «مِصر الحُلوة» لا ينتهى!.
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأُرثوذكسى