احتفل مَسيحيُّو الشرق فى التاسع من مارس بالعيد الثامن والأربعين على نياحة القديس «البابا كيرِلُّس السادس» السادس عشَر بعد المائة فى بطاركة الإسكندرية؛ وحين نبدأ الحديث عن حياة ذلك القديس، نقف أمام كَنز حافل امتلأ بالعمل من أجل رعيته ووطنه. لقد كانت «للبابا كيرِلُّس» محبة عميقة فى وجدان الشعب المِصرىّ بمسلميه ومَسيحىِّيه، فيذكر مثلث الرحمات «البابا شنودة الثالث» عنه: «كنا نشعر بطيبة الرجل وقلبه المحب. وكانت له أيضًا ابتسامة رقيقة جدًّا وعذبة، تجبر كل إنسان على محبته أمام هذه الابتسامة الحلوة».
تزكية واختيار
وعلى الرغم من محاولات «الراهب مينا البَرَموسى» الهروب من العالم سعيًا فى حياة التعبد والصلاة والوَحدة التى أرادها طريقه فى الحياة ـ حتى إنه دُعى «القمص مينا المتوحد»، فإن الله كان له رأى آخر؛ فبعد نياحة «البابا يوساب الثانى» الـخامس عشَر بعد المائة، قام «أنبا أثناسيوس» مِطران بنى سويف القائم مقام البطريرك آنذاك بتقديم تزكية فى القمص «مينا المتوحد» دون علمه، ولم يوقع على ورقة الترشيح والتزكية أىٌّ من الأساقفة، بل كانت موقعة من اثنَى عشَر عضوًا من المجلس الملى فقط!!، بل جاء خامسًا فى الترتيب!!، أمّا ترتيبه بالانتخابات التى أُجريت فى السابع عشَر من إبريل ١٩٥٩م، فكان الثالث!!، ثم كان أن أعلنت القرعة الهيكلية اختياره بطريركًا للكرازة المَرقسية فى التاسع عشَر من إبريل عام ١٩٥٩م؛ ليقضى على الكرسىّ المَرقسىّ ١١ سنة و٩ أشهر و٢٩ يومًا. لقد أراد القديس «البابا كيرِلُّس» الوَحدة وأراد له الله الرعاية، ما دعاه أن كان يردد: «كنت أود أن أعيش غريبًا وأموت غريبًا؛ ولٰكن لتكن إرادة الله».
رعاية ومحبة
اتسمت حياة «القمص مينا البَرَموسىّ المتوحد» برعايته لكل نفس تلتقيه؛ فكانت الجموع تذهب إليه قاصدةً ذلك الراهب المتوحد الذى يعيش فى طاحونة الجبل، حاملةً له محبة كبيرة، ساعيةً إلى الصلاة معه كل يوم. وقد اهتم «القمص مينا المتوحد» بالطلبة المغتربين وبنى لهم بيتًا يقيمون فيه، وكان يشملهم بعنايته وبرعايته فى جميع أمور حياتهم.
وعندما صار الراهب المتوحد «بطريركًا» وجده شعبه راعيًا ذا قلب عظيم، يهتم بكل نفس، ويصلى كل مساء وصباح، ثم يصافح كل شخص مستمعًا إلى جميع طلباته وشكاواه مصليًا؛ وكثيرًا ما كان الناس يخرجون من عنده فرحين شاعرين بالسلام وقد حُلت مشكلاتهم أو وجدوا إجابات لتساؤلاتهم؛ فبالحق هو أب وراعٍ: يطلب الضالّ، ويبحث عن المطرود، ويَجبُر الكسير، ويَعصِب الجريح، ويرعى أبناءه بعدل، مهتمًا بالجميع.
لم تتغير محبة القديس «البابا كيرِلُّس السادس» لأىّ إنسان، حتى نحو من أساء إليه! فيُذكر أنه فى وقت انتخابات البطريركية، هبّ أحد الرهبان ـ وكان مندوبًا لأحد المرشحين للبطريركيةـ يسُب «الراهب مينا البَرَموسىّ» لدى الناخبين، طالبًا منهم عدم اختياره للبطريركية، وبعد الاختيار الإلهىّ له ورسامته بطريركًا، أخذ قداسته يهتم بذلك الراهب وأوكل إليه خدمة «بيت المغتربين بمصر القديمة»، ثم رسمه أسقفًا على إحدى الإيبارشيات؛ ولم يكُن ذلك الموقف هو الوحيد لمحبة البابا للجميع، فقد حدث أن وزّع بعضهم منشورات ضده على أبواب الكنائس مدة عام ونصف العام. وعلى الرغم من معرفة «البابا كيرِلُّس السادس» بما يفعلونه، فإنه كان يصلى من أجلهم وقد سامحهم جميعًا، وبفضل محبته واتساع قلبه تحولت العداوة فى قلوبهم إلى محبة وخدمة وإخلاص وتفانٍ عظيم.
ولم تكُن حياة القديس «البابا كيرِلُّس السادس» بالسهلة، بل قدم فيها كثيرًا من الرعاية والمحبة والسهر على رعايته لشعبه. وكان قداسته يتمتع بوطنية كبيرة خاصة تجاه قضية «القدس»، والأزمة التى مرت بالبلاد بعد عُدوان عام 1967م، ظهرت فى رسائله البابوية والبيانات التى أصدرَها فى اللقاءات التى شارك فيها من ندوات ومؤتمرات شعبية (تحدثنا عنها فى مقالات سابقة).
أختِم بكلمات مثلث الرحمات «البابا شنودة الثالث»: «حياة أبينا قداسة «البابا كيرِلُّس» مملوءة بالعمل وبالبركة فى كل ناحية، ومهما تكلمنا عنها لا نشبع!» و… وعن «مصر الحلوة» الحديث لا ينتهى.
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأُرثوذكسى