أَنْتَ قَلْبٌ وَاسِعٌ فِى حِضْنِهِ عَاشَ جِيلٌ كَامِلٌ أَوْ عَاشَ شَعْبُ أَنْتَ نَبْعٌ مِنْ حَنَانٍ دَافِقٍ أَنْتَ عَطْفٌ أَنْتَ رِفْقُ أَنْتَ حُبُّ وَأَبٌ أَنْتَ وَنَحْنُ يَا أَبِى عِشْنَا بِالْحُبِّ عَلَى صَدْرِكَ نَحْبُو
هٰذه بعض من كلمات ألقاها مثلث الرحمات «البابا شنودة الثالث» السابع عشَر بعد المائة فى بطاركة الإسكندرية، فى حفل «اللجنة العليا لمدارس الأحد»؛ لتأبين «القديس أرشيدِياكون حبيب جرجس» فى تَذكار «الأربعين» على انتقاله. واليوم، حين أحاول الكتابة عن شخص لم يؤثر فى رعيته فحسب بل امتد تأثيره إلى أبناء وطنه جميعًا، بل تخطت محبة الجميع لشخصه حدود «مصر» لتصل إلى العالم بأسره، لا أجد سوى تلك الكلمات التى خطتها يداه لتسرع بقلبى قبل قلمى فى التعبير بها، بمشاعر قوية لطالما اجتاحت قلوب كل من تعاملوا معه.
لقد احتفل مَسيحيُّو الشرق قبل أيام قليلة بذكرى نياحة مثلث الرحمات «البابا شنودة الثالث»، الذى وُصف بكثير من الألقاب: «البابا المعـلِّم»، «معلِّم الأج يال»، «الذهبى الفم»، «الذهبى القلم»، «بابا العرب»، «كاروز العصر»، «أثناسيوس القرنين العشرين والحادى والعشرين»؛ أوصاف لا تقدم إلا لشخصية متفردة عاشت بيننا وأثّرت وأثْرت حتى نالت تقدير البشرية واحترامها. وحين أحاول الحديث عن شخصية فى عمق «البابا شنودة الثالث» واتساعه، تعجز الكلمات عن التعبير.
قلب واسع
حمل «البابا شنودة الثالث» قلبًا متسعًا يمتلئ بالمحبة لكل إنسان، وبخاصة الضعفاء والمتألمين والمحتاجين وكل من هم فى ضيقة؛ فكان يهتم بكل نفس يلقاها مهما كانت بسيطة؛ وهٰكذا كانت تحضَر للقائه النُّفوس المتعبة المتضايقة ثم تغادر وقد انقشعت عنها غُيوم الحزن وامتلأت بالراحة والسلام!
أذكر أن إحدى الشخصيات قد قصت لى أنها ذات يوم اشتدت بها مشاعر الألم على نحو عميق نتيجة بعض الخلافات العائلية، فلم تدرِ إلا بقدميها تقودانها إلى المقر البابوى! وما إن وطئَت أرض «الأنبا رويس»، حتى شعرت بتحركات غريبة، والأشخاص من حولها يسرعون تجاه المقر البابوىّ، قائلين بعضهم لبعض إن قداسة «البابا شنودة» واقف على باب المقر يصافح الجميع. توجهت هٰذه الشخصية إلى مصافحة البابا، وقالت: «كنت أشعر بآلام شديدة فى أعماقى، وحَيرة أشد، ولم أجد ملجأً لأحزانى سوى «الكاتدرائية»، على الرغم أننى لست من روادها، وأسكن بعيدًا عن تلك المِنطَقة. وعندما رأيت «البابا شنودة الثالث» يصافح الناس، تقدمت فى تردد، فقد كان قلبى حزينًا جدًّا، وفكرى منشغل، وأشعر بوَحدة عميقة. كنت أشعر أننى فور أن ينظر أيّ إنسان إليَّ بإمعان، أنفجر صارخًا أو باكيًا! هدّأت رُوعى قليلاً، وقلت فى نفسى: من أنا حتى يشعر بى قداسة البابا؟! إنه لا يعرفنى، وأيضًا لديه كثير من المشغوليات والهموم والمسؤوليات؛ لن يلتفت إلى ما أعانيه! لٰكننى تقدمت ووقفت فى صف يتقدمنى فيه بضعة أفراد، وكان البابا يقوم بتوزيع بعض الحلوى؛ وعندما وجدت نفسى أمامه، رأيته يبتسم لى ويملأ يده بالحلوى ويضعها فى يدى؛ وفى تلك اللحظة سقطت إحدى قطع الحلوى على الأرض، فنظر إليَّ البابا بتمعن وابتسم فى حنان شديد، قائلاً: لا تحزن! لا تحزن على ما سقط منك؛ الله سيعوضك أكثر! وبدأ معى حديثًا وديًّا كأنه يرى آلامى وحِيرتى؛ فشعرت بسلام عجيب وراحة! كانت كلماته على بساطتها تعنى لى كثيرًا، إذ كنت قد فقدت كثيرًا من الأشياء نتيجة ما يمر بى من مشكلات؛ لٰكن أثبتت الأيام أن ما ظننته خَسارة كان ربحًا!».
أما المحتاجون فكان قداسته يضع احتياجاتهم ضمن أولوياته حيث يرأس بنفسه أعمال «لجنة البر» أسبوعيًّا بـ«القاهرة»، وكل أسبوعين بـ«الإسكندرية»، كما كان يهتم بعلاج الحالات المرضية التى تكتُب إليه ويتابع تطورات أحوالها وما آلت إليه. وبوصفه راعيًا، كان لا يعبأ بما يبذُله من جَهد، موصيًا الرعاة والخدام بأن يتعبوا من أجل إراحة الناس، مرددًا دائمًا: «أمامنا طريقان: إما أن نتعب نحن ويستريح الناس، وإما أن نستريح نحن ويتعب الناس»؛ وقد اختار أن يتعب من أجل إراحة الناس فى أبوة حانية و… وعن «مصر الحلوة» الحديث لا ينتهى…!
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى