تحدثنا في المقالة السابقة عن “دَكيوس قيصر” واضطهاده الشديد للمسيحيِّين، وبخاصة المِصريون. ثم الإمبراطور “جالوس قيصر” الذي سلبه القائد “إميليانوس” الحكم، ولم يستقر في الحكم حتى صار “ڤاليريان” قيصر روما.
ڤاليريان قيصر (253 – 261م)
كان “ڤاليريان” من عائلة نبيلة تنحدر من مجلس الشيوخ. وفي أول أمره صار قنصلًا في عام 238م. وفي أثناء حكم “دَكيوس” عُين حاكمًا على مقاطعة الراين. وطلب منه الإمبراطور “جالوس” أن يواجه ثورة “إميليانوس” وعصيانه، فتوجه بجيوشه إليه، إلا أن “دَكيوس” كان قد قٌتل بيد جنوده منضمين إلى “إميليانوس” ومعلنين إياه إمبراطورًا. إلا أن “ڤاليريان” لم يتوقف، وتوجه إلى مقاتلة “إميليانوس”، ولٰكن عند وصوله لمحاربته، كان جنود “إميليانوس” قد انشقوا عليه وقتلوه، فأُعلن هو قيصرًا.
وكان من أول قرارات “ڤاليريان” بعد استقرار الحكم له، أن جعل ابنه “جاللينوس” قيصرًا مشاركًا إياه في الحكم. وقد شهِدت مدة حكم الإمبراطور “ڤاليريان” ثم ابنه “جاللينوس” ازديادًا في الإهمال والكساد والتخلف والفقر، حتى أصبح معظم ولايات الإمبراطورية أكثر تخلفًا ونِسْيانًا.
بدأ حكمه متسامحًا لطيفًا مع المسيحيِّين، بل كان كثيرون منهم في قصره. لٰكن سرعان ما انقلب عليهم؛ فنفى كثيرًا من الإكليروس والعلمانيِّين، وصادر أملاكهم، وحرَّم الاجتماعات الدينية. ولمّا لم يجد جدوًى، استخدم عقوبة الموت؛ فأرسل إلى مجلس الشيوخ الروماني أمرًا بإعدام الأساقفة والقساوسة والشمامسة على الفور دون إبطاء. كا أمر بتجريد المسيحيِّين ـ من أعضاء مجلس الشيوخ، والرجال البارزين، والفُرسان الرومان ـ من ألقابهم وممتلكاتهم. وإذا أصروا على التمسك بديانتهم بعد ذٰلك يُحكم عليهم بقطع رؤوسهم! أمّا النساء المتزوجات فيجردن من ممتلكاتهن ويُنفَين. وصغار المواطنين المعترفين بمسيحيَّتهم فمصيرهم أن يقيدوا بالسلاسل، ويرسَلوا إلى العمل في ضياع الإمبراطور عبيدًا، بالإضافة إلى قطع رؤوسهم بالسيف! ومن أشهر شهداء ذاك العهد “سكستوس الثاني” أسقف روما، و”كِبْريانوس” أسقف قرطاچنَّة.
أمّا عن مِصر آنذاك، فمن كتاب “تاريخ الكنيسة القبطية” نجد أن “ڤاليريان” في بَدء ملكه كان يستدعى المسيحيِّين إلى قصره ويجالسهم، وأنه كان يسوءه ما يتعرضون إليه من أذًى، ولٰكنْ هذه المحبة انقلبت إلى بُغضة وكراهية وعداوة شديدة تجاههم بسبب أحد كهنة المعابد المِصرية القريب من الإمبراطور، الذي خاف على فقدان مكانته عنده متى ازداد قربًا من المسيحيِّين، فوشى بهم لديه بأن الذبائح التي يقدمها هو إلى الآلهة من أجل سلامة الإمبراطور لم تعُد مقبولة لتقربه إلى المسيحيِّين. وصدَّق “ڤاليريان” أكاذيبه، فاضطهد المسيحيِّين بوحشية وقتل كثيرًا من الشيوخ والأساقفة، “وكان المضطهِدون يهجُمون على الآمنين في بيوتهم، ويجرونهم إلى مناقع العذاب؛ حتى اضطُر كثيرون من المسيحيِّين إلى هجر دُورهم، واتخذوا الجبال والمغائر مخابئ لهم”.
وقد حارب “ڤاليريان” الفرس فهُزم وأُسر، وعاش بقية أيامه عبدًا، ومات في الأسر، فاندلعت موجة من الثورة على الحكومة المركزية في أنحاء الإمبراطورية كافة ـ ومن الطبيعي أن تثور مِصر ضد الإمبراطورية ـ ليكون هو الإمبراطور الرومانيّ الوحيد الذي أصبح أسير حرب مسببًا عدم استقرار إمبراطوريته.
“جاللينوس قيصر” (253 – 268م)
في أثناء أسر “ڤاليريان” تولى ابنه “جاللينوس” حكم روما، ولٰكنه انشغل عن مهام منصبه بالولائم والاحتفالات غير مهتم بأحد من رعيته، حتى أبوه الذي يحيا في الأسر في ذل ومهانة في بلاد فارس لم ينَل حظًا من اهتمام ابنه!
وامتلأ عصره بالمصائب والكوارث حتى وصلت الإمبراطورية إلى ضَُعف شديد وكادت أن تنهار! بالإضافة إلى إغارات الأعداء التي مزقت المملكة؛ دون أدنى اهتمام منه! وكان عهده بؤسًا، وانتشرت الأوبئة والفقر والفتن، وتفشى الوباء في مِصر، وفي روما قُدر معدل الهالكين بالطاعون بقُرابة خمسة آلاف شخص يوميًا!!
لذا اعتبرت أيام حكمه من أشد فترات المِحن والبؤس التي مرت بروما، مما أدى إلى ثورة “إميليانوس” أمير الجيوش المرابضة في مِصر عليه. وقد أرسل إليه “جاللينوس قيصر” التحذيرات لوقفه فلم يسمع له واستأثر بالحكم، فقاتله حتى هزمه وأسره وحكم عليه بالموت. ولم تكُن تلك الثورة الوحيدة ضد القيصر في مِصر، فقد ثار الجنود الرومان في الإسكندرية مرتين معلنين في كل مرة إمبراطورًا جديدًا، إلا أنهما قٌُتلا. بل قامت عدة ثوْرات ضده ولٰكنها لم تفلح، حتى استاء الشعب من حكمه وأفعاله وسوء إدارته للبلاد فقُتل وأٌلقيت جثته أمام قصره. وحكم من بعده “كلوديوس الثاني”.
“كلوديوس الثاني” (268 – 270م)
كان أحد رؤساء الجيوش الرومانية المعتبرين، وقد أعلنه الجنود إمبراطورًا نظرًا إلى إنجازاته العسكرية وهزيمته أعداء الإمبراطورية هزيمة نكراء. وعندما دخل إلى روما مع جنوده أقر مجلس الشيوخ بحكمه روما.
إلا أنه بعد مدة وجيزة، قام عليه الأعداء وهاجموا الإمبراطورية؛ فقاتلهم وانتصر عليهم انتصارًا ساحقًا. ولكنّ الوباء تفشى بسبب كثرة الدماء التي سُفكت في المعركة؛ فأٌصيب هو به قبل عودته إلى روما ومات! وتولى من بعده “أورليان قيصر”.
أوريليان قيصر (270 – 275م)
اجتمعت كلمة الجميع على تولية “أوريليان قيصر” عرش روما؛ إذ كان قائدًا مُهابًا في الجيش يخشاه أعداؤه قبل جنوده. وبعد توليه الحكم أغارت الجيوش الألمانية على إيطاليا وهزمت الجيوش الرومانية وبدأت في سلب المدن. إلا أن “أوريليان” جمع الجيوش ثانيةً وطردهم من البلاد.
وفي تلك الفترة، ظهرت “زنوبيا” ملكة “تَدمُر”، بعد موت زوجها الذي كان قد حصِل على لقب أُغسطس بسبب تحالفه والرومان، فورثت اللقب وأصبحت “قيصرًا”. وقد تميزت هٰذه الملكة بالشجاعة والقوة والحنكة السياسية، بالإضافة إلى طموحها في حكم روما. فقد كان لها المقدرة على قيادة الجيوش، وكانت تخطب في الجنود محفزة إياهم على النصر مرتدية خَوذة القتال مثلهم! وقد توسعت مملكة “تَدمُر” في أيامها لتشمل بلاد صُور والشام والعراق، واكتسبت صيتًا واسعًا. وكانت مِصر آنذاك تحاول الاستقلال من الحكم الرومانيّ، فما أن أدركت “زنوبيا” هٰذه الرغبة حتى دخلت بجيوشها إلى الإسكندرية، ولكن لم يستقر لها حكم مِصر فقد طردتها الجيوش المِصرية من الإسكندرية.
ولكن بطموح المُلك العنيد لم تستسلم، وعادت واستولت على الإسكندرية. فقام “أوريليان قيصر” بالتقدم بالجيوش لمحاربتها، واشتدت الحرب حتى هُزمت، وأُسرت، ودخلت إلى روما كغنيمة، وعاشت في أحد القصور حتى ماتت.
وبعد هٰذا ظهر تاجر بالإسكندرية أعلن الاستقلال بحكم مِصر. وخضع له أكثرية الشعب، وتولى دفع أموال الجنود من تجارته الخاصة، وعقد معاهدات مع البلاد المجاورة مِصر. فأرسلت الدولة الرومانية الجيوش لمحاربته، ومع أنه انتصر في البداية انتصارت متوالية، إلا أنه مُني بهزيمة ساحقة قٌتل فيها، فعادت مِصر تحت سلطة الإمبراطورية الرومانية مجددًا.
وقد حكم مِصر من بعد هٰذه الأحداث أحد الأمراء الرومانيين، الذي حاول إصلاح ما تهدم فيها، واهتم بالنيل وإعادة الملاحة فيه.
أما “أوريليان قيصر”، فقد اضطهد المسيحيِّين بقسوة، وأصدر مرسومًا بقتلهم؛ وهو ما أدى إلى حدوث مذابح مروعة في أنحاء الإمبراطورية شتى.
وقد سار “أوريليان” لمحاربة الفرس، إلا أن فتنة كبير وقعت بين جنوده أدت إلى قتله، و…. و الحديث عن مِصر لا ينتهي … !
الأسقف العام ورئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأرثوذكسيّ