تحدثنا في المقالة السابقة عن بَدء حكم الأباطرة العسكريين بـ : “جورديان الثالث”، و”فيليب العربيّ”، ثم “دَكيوس” أو “دِسيوس” الذي بدأ أول اضطهاد عامٍ على المسيحيِّين؛ ومنهم الشهيد فيلوپاتير “مِرقوريوس” أبو السيفين القائد الرومانيّ الذي نال شدائد كثيرة.
وُلد “مِرقوريوس” سنة 224م تقريبًا، وكان أبوه “جورديانوس” ضابطًا رومانيًا، آمن بالمسيحية بعد إحدى رِحلات الصيد عندما أنقذه الله من وحشين. ولما شاع خبر اعتناق الأسرة للمسيحية ووصل الأمير، استدعاه وعائلته وألقاهم للوحوش، ولكنّ الرب أنقذهم ولم تؤذِهم فاندهش الجميع! فولّاه الأمير رئاسة الجند. وعندما قامت حرب على الرومان، قاتل “جورديانوس” الأعداء بشجاعة، ولكنهم أسَروه سنة وخمسة أشهر، ثم عاد إلى مدينته حيث التقى أسرته مجدَّدًا، ثم مات. فقام “دَكيوس” الملك بتولية ابنه “مِرقوريوس” عِوَضًا، فقاد الجيش الإمبراطوريّ ضد هجمات الأعداء وانتصر بقوة الله. وبعد الانتصار، امتلأ قلب “دَكيوس” بالشر وبعث بمنشور إلى الإمبراطورية كافة؛ جاء فيه:
من دِكيوس إمبراطور روما إلى جميع أنحاء الإمبراطورية: ليكُن معلومًا أن آلهة الآباء والأجداد كتبت لنا النُصرة، فيلزَم على الجميع أن يسجدوا لها. وقد أصدرتُ أوامري إلى الجميع بتقديم البَخور إليها. وكل من يُطيع أوامري ينال كرامة، أمّا من يخالف أوامري فيعذَّب ويُقتل بالسيف].
وقد لاحظ “دَكيوس” غياب “مِرقوريوس” عن حفل تقديم قرابين الشكر إلى الآلهة، وحين استدعاه لسؤاله عن السبب، اعترف “مِرقوريوس” بإيمانه بالمسيحية؛ فأمر “دَكيوس” بالقبض عليه وتعذيبه في السجن؛ بتمزيق جسده بالدبابيس والأمواس الحادة، ووضع جمر نار على جنبيه ليُحرق وهو حيّ!!! وقد احتمل آلامًا كثيرة، وكان الله يَشفيه منها.
خاف “دَكيوس”من غضب أهل روما لمحبتهم للقائد “مِرقوريوس”، فأرسله إلى قيصرية بكبادوكِيا حيث أمر بقطع رأسه بحد السيف بعد أن يُجلد بالسياط. وكتب قضيته هٰكذا: [حيث إن الأمير مِرقوريوس ـ عميد الجيوش ـ أنكر الآلهة الكِرام، ورفض إطاعة الأوامر الملكية وعظمتها، نأمر أن يُمضى به إلى قيصرية الكبادوك لتؤخذ رأسه هناك بحد السيف]. وهٰكذا نال الاستشهاد هناك. وفي مِصر القديمة بالقاهرة دير مشهور يحمل اسمه.
وقد ذكر أحد المؤرخين عن الأحداث في مصر: [وشهِدت مِصر اضطهاد المسيحيين بالتعذيب والصلب والقتل حتى لم ينجُ منهم إلا من فر إلى الصحاري أو التجأ إلى المقابر والكهوف]. ويصفها البابا “ديونيسيوس الأول” بطريرك الإسكندرية في رسالة له إلى “فابيان” أسقف أنطاكية عن مدة حكم “دَكيوس”، فيقول فيها:
[ … ولم نكَد نتنفس الصُّعَداء حتى حاق بنا الخوف وحَفَّنا الخطر عندما أُبدل بذٰلك الملك ـ الذي كان أرقّ جانبًا وأقل شرًا من غيره ـ ملك آخر قد لا يجلس على كرسي المملكة إلا ويوجه أنظاره نحونا فيعمل على اضطهادنا. وقد بدأ حَدْسنا يَصدُق وظننا يتحقق حال ما صدر أمر شديد الوطأة على المسيحيِّين ـ مثلما أنبأ بذٰلك مخلصنا له المجد ـ متضمنًا عبارات تصطكّ منها الرُّكب حتى أوشك المختارون على السقوط والعِثار، وعم الخوف الجميع، وركَن كثيرون من المشاهير إلى الفِرار، ويُرفَت كل مسيحيّ من خدمة الحكومة مهما يكُن ذكاؤه ونباهته. وأيّ مسيحي ـ يعرفه أحد الوثنيِّين ويُرشد عنه ـ يؤتى به على عجل ويدعونه باسمه حتى يتقدم إلى هيكل الأوثان، فيُطلب منه تقديم الذبيحة الوثنية. وكان عقاب من يرفض تقديم الذبيحة للصنم أن يكون هو نفسُه ذبيحة للصنم بعد أن يجتهدوا في إقناعه بذٰلك بكل وسائط التخويف والإرهاب، في حين كان جمهور من الوثنيِّين يهزأ ويسخَر من كل مسيحيّ يكون حظه إما نكران الإيمان وتقديم الذبائح للأوثان، وإما الموت الذي هو نهاية كل إنسان … وغيرهم قُبض عليهم وطُرحوا في السجون مكبَّلين بالقيود والأغلال]. ومع أن بعضًا قد ضعُف إلا أن كثيرين ظلوا متمسكين بإيمانهم؛ على صعوبة وقسوة العذابات! ويقدِّم البابا “دِيُونِيسيوس الأول” أُنموذجًا لرجل يُدعى “يوليانوس” فيقول: [وفي مقدمة هؤلاء الأتقياء، رجل اسمه “يوليانوس” أصيب بالنقرس فلم تكُن له مقدرة على السير أو القيام من مكانه؛ فساقوه إلى المحاكمة يحمله رجلان على كِتْفيهما. ولما تقدم هٰذان الرجلان أمام المحكمة، أنكر أحدهما إيمانه .. وأما الثاني ـ واسمه كرونيون ولقبه إينوس ـ فاعترف بإيمانه اعترافًا صريحًا كما اعترف يوليانوس أيضًا]. وعلى ذٰلك وضوعوهما على جملين يطوفان بهما الإسكندرية، وهم يجلدونهما بالسياط بعنف شديد، وأخيرًا طرحوهما في النيران حتى صارا رمادًا!!
وقد ظهر في مِصر آنذاك شخص يدعو المصريِّين إلى ترك المسيحية والعودة إلى الوثنية، مما تسبب في خلاف وفتنة عظيمين بين المسيحيِّين والوثنيِّين؛ فخرج الوثنيُّون لإهلاك المسيحيِّين، ونهَبوا بيوتهم في كل مكان؛ والإسكندرية خاصة. ثم زادت الفتنة حتى صار أمر إراقة دماء المسيحيِّين من الواجبات الدينية!! ثم قام الوثنيُّون بتتبع المسيحيِّين في كل مكان حتى هربوا إلى الصحاري. وكانت الحكومة الرومانية آنذاك تحاول أن تجعل الفتن بين أهل مصر مستمرة ومشتعلة بلا هوادة. بل إنها كانت تؤكد هٰذه العداوة بين أهالي الأديان بكل وسيلة؛ لتحقق مآربها بانشغال أهالي مِصر بالحروب الأهلية وبالخلافات المُصطنعة غير منتبهين لعدُوهم الأصليّ الذي يحتل بلادهم؛ وبهٰذا تحتفظ الإمبراطورية بهيمنتها على البلاد وتحكمها بيد من حديد.
أمّا عن الأمور السياسية والحكم في مِصر، فأقام “دَكيوس” أميرًا لتدبير شؤون الجيش، وأقام أميرًا آخر مصريّ الأصل يحكم الشؤون السياسية للبلاد دون أن يتعرض لأمور الجيش. وقد انتشرت في تلك الأيام الفتن والحروب الداخلية والاضطرابات والأوبئة والقحط حتى هلك مِصريون كُثر. وقد مات “دَكيوس” في حروبه بعد سقوطه في أيدي أعدائه، وحكم من بعده الإمبراطور “جالوس”.
جالوس قيصر (251 – 253م)
وُلد في إيطاليا من عائلة عريقة، وأصبح من القواد، وارتقى المناصب العليا بنشاطه وغَيرته واجتهاده؛ ما جعله ينال ثقة الإمبراطور “دَكيوس”. ومع موت “دكيوس” وابنه في الحرب، أعلن الجنود “جالوس” إمبراطورًا، فاشترك في الحكم هو ومعه ابن “دكيوس” الأصغر “هوستليان”، وعهد بالمُلك من بعده إلى ابنه “فولوسيانوس”. إلا أن بعد زمن وجيز، شاع أن “هوستليان” مات بسبب الوباء الذي كان منتشرًا في روما آنذاك. وذكر بعض المؤرخين أن “جالوس” قام بقتل “هوستليان” وأشاع أن سبب موته الطاعون الذي فتك بكثير من الشعب، ويُشير البعض الآخر إلى موته بالطاعون فعلا.
ولم تكُن مدة حكمه سهلة؛ فقد قامت الثورات ضده في الشرق؛ فأرسل جيوشه لمواجهة الفرس الذين غزَوا أرمينيا ودمروا الجيوش الرومانية. وقد أوقف الغزو الفارسيّ “أورانيوس أنطونيوس” ـ وكان كاهنًا سليل العائلة الملكية في حمص ـ وأجبر ملكهم على التراجع، ثم أعلن نفسه إمبراطورًا.
وفي سنة 253م، أُغير على “مويسيا” (الجزء الرئيسيّ من وسَط صربيا وبلغاريا)، وكان قائد الجيوش آنذاك هو “إميليانوس” الذي استطاع مواجهة الأعداء وهزيمتهم شر هزيمة. ونتيجة هٰذا الانتصار أعلن الجنود في ميدان القتال “إميليانوس” إمبراطورًا للبلاد بدل “جالوس”.
وما أن وصلت هٰذه الأخبار إلى “جالوس” وسمِع بأمر النداء “بإميليانوس” على عرش روما، إلا وأعد الجيوش لمواجهته وطلب المعونة من “ڤاليريان” فسار بجيش هو الآخر، إلا أن جيوش “جالوس” و “إميليانوس” تواجهت، وحدثت فتنة في صفوف جيوش “جالوس” فقٌتل هو وابنه بأيدي جنودهما.
ولم يكَد يستقر “لإميليانوس” حُكم روما، حتى وصل “ڤاليريان” بجيوشه لمحاربته وانتصر عليه انتصارًا كبيرًا وقتله وابنَه بعد حكم استمر أشهر قليلة، ثم تولى هو حكم البلاد.
وكانت مِصر في مدة حكم “جالوس” مهملة معزولة عن الإمبراطورية الرومانية ووِلاياتها؛ حتى إنه عند تولِّيه عرش الإمبراطورية لم يصل هٰذا الخبر إلى مِصر إلا في العام التالي! وهٰذا إن دل على شيء فإنه يدل على الكساد التِّجاريّ والضعف السياسيّ بين الإمبراطورية ومِصر التي … التي الحديث عنها لا ينتهي … !
الأسقف العام ورئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأرثوذكسيّ