تابعنا بالمقالة السابقة الحديث عن “أحمد بن عليّ الإخشيد” الذي حكم “مِصر” بعد موت “كافور الإخشيديّ”، وهو ما يزال في وصاية عمه “الحسن بن عُبيد الله”، إلى وقت دخول “جوهر الصقليّ” “مِصر” وانتهاء عصر “الدولة الإخشيدية” وصيرورة “مِصر” تحت حكم “الفاطميِّين”، في تناول لأحوال “الكنيسة القبطية” آنذاك أيام “البابا ثاؤفانيوس” الذي تنيح عام 956م وخلفه على الكرسيّ الإسكندريّ “البابا مينا الثاني”.
“البابا مينا الثاني” (956-975م)
الحادي والستون في بطاركة الإسكندرية، الجالس على الكرسيّ المَرقسيّ أيام حكم “أُنُوچُور بن الإخشيد”، والمعاصر حكم “الإخشيديِّين” على “مِصر” وبَدء الحكم الفاطميّ.
كان “البابا مينا” قبل البطريركية راهبًا ناسكًا بسيطًا من “دير أنبا مقاريوس”، وموطنه الأصليّ “صندلا” بمركز “كفر الشيخ”. ويُذكر أن أبويه أرادا أن يزوجاه وهو ما يزال في سن صغيرة، بغير رضاه إذ كان يرغب في حياة الرهبنة والتعبد، لٰكنه لم يعارضهما الزواج والتزم الصمت لكي يخضع لهما ملتمسًا بركتهما إذ يذكر “ابن المقفع”: “وسبب رهبانيته أن أبويه ألزماه بالزيجة في صباه بغير اختياره، وكان طايعًا (طائعًا) لهما جدًّا؛ وكمّلوا كل ما يحتاج إليه العرس، وهو يرى ذٰلك كأنه خيال أو منام …”! وحدث أنه بعد إتمام مراسم الزواج أن كاشف زوجته في أمر رغبته الحقيقية في البتولية وترْك أمور هٰذا العالم وشجعها على ذٰلك فوافقت ومالت ميلاً شديدًا إلى حياة التبتل مثله؛ وبعد أيام قليلة أخبرها أنه سيذهب إلى البرّية طالبًا الرهبنة، موصيًا إياها أن تحفظ سرهما دون أن تخبر أحدًا. وهٰكذا ترك المنزل إلى مغارة قريبة من الدير، خاضعًا لرعاية أب راهب قديس شيخ علَّمه السلوك في الحياة الرهبانية ومخافة الله، ثم ألبسه الزيّ الرهبانيّ. أمّا أهله فعندما لم يجدوه أقاموا مناحة كبيرة عليه ظانين أنه مات! وبعد مضي بضع سنوات عرَفوا أمره. أمّا “الراهب مينا”، فقد أخذ يسلك باجتهاد عظيم في الفضائل حتى ذاع صيته الحسَن من نسك ووداعة ومواهب وعمق معرفة وبساطة.
وكان بعد نياحة البطريرك “ثيئوفانيوس” وخلوّ الكرسيّ المَرقسيّ، أن صلّى الأساقفة والأراخنة من أجل أن يرشدهم الله إلى من يختاره؛ وفي أثناء ذٰلك وصلت إليهم أخبار عن راهب شيخ ذي فضائل وعبادة وعلم واسع؛ فذهب الأساقفة والكهنة إليه وطلبوا منه أن يقبل السيامة، فما كان من الأب الشيخ إلا أن رشح تلميذه “مينا” للبطريركية فأخذوا برأيه وساقوا “الراهب مينا” رغمًا عنه مقيدًا إلى “الإسكندرية” حيث سِيم بطريركًا في 956م.
رعايته
ما إن جلس “البابا مينا الثاني” على كرسيّ البطريركية، حتى بدأ الاهتمام برعيته فقام بزيارة رعوية إلى كل بلاد “مِصر” متضمنةً بلدته التي في أثناء زيارتها رآه إنسان شرير النية سأل أحد الأساقفة المرافقين للبابا البطريرك عن عدم سماح القوانين الكنسية بأن يكون الأب البطريرك متزوجًا، مخبرًا الأسقف بأمر زواج البطريرك وأن زوجته ما تزال تعيش في البلدة. سرت القصة بين الآباء الأساقفة سريان النار في الهشيم! فأدرك البابا الأمر وأنهم يتحدثون عنه ويُهَمهِمون؛ فأسرع باستحضار زوجته وأعلنت بتولية كل منهما، فهدأت الأنفس وعبرت العاصفة.
واهتم “البابا مينا الثاني” أيضًا ببناء الكنائس وترميمها، إلى جانب إقامة كتاتيب ومدارس للأطفال، وعمل “المَيْرُون المقدس” بكنيسة أقامها على اسم “مار مَرقس الرسول” في “محلة دانيال”.
وقد شهِدت أيام “البابا مينا الثاني” صعوبات شديدة مرت بالمِصريِّين عانوا فيها عناءً شديدًا: من نقصان مياه النيل، وانتشار المجاعات، والأوبئة والأمراض؛ حيث يذكر “ساويرُس ابن المقفع”: “وكان غلاء عظيم في جميع أرض «مِصر»، حتى إن كورة «مِصر» خلت من الناس لكِثرة الموت والجوع الذي كان.”!! إلى أن تحنن الله برفع الضيقات بالصلوات والطلبات، وعم الرخاء “مِصر”. وقد تنيح “البابا مينا الثاني” سنة 975م، بعد أن جلس على كرسيّ “مار مَرقس” تسعة عشَر عامًا تقريبًا؛ وخلفه “البابا أبرآم بن زَرْعة” الذي … والحديث في “مِصر الحلوة” لا ينتهي!
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ