أُطلقت عليه ألقاب عديدة: “كاروز الديار المِصرية”، “الإنجيليّ”، “الرسول”، “الشهيد”، وغيرها؛ أول من بشر بالمَسيحية في “مِصر”: إنه “مار مَرقس الرسول” الذي يحتفل أقباط “مِصر” اليوم بعيد استشهاده.
لمحات من حياته
وُلد “مَرقس” بالقَيروان في الخمس المدن الغربية، وتعلم “اليونانية” و”اللاتينية” و”العبرية”، ودرس كتب الناموس والأنبياء. عاد “مَرقس” مع عائلته إلى “أورُشليم” وقت ظهور السيد المسيح الذي اختاره من السبعين رسولاً؛ فشهِد كثيرًا من الأحداث والمعجزات والتعاليم.
صحِب “مار مَرقس” الرسل في كرازتهم: فخدم مع “بطرس الرسول”، ثم مع الرسولين “بولُس” و”بَرنابا”؛ إلا أن كرازته الأساسية كانت في “أفريقيا”: في الخمس المدن الغربية، و”الإسكندرية”، والأقاليم المِصرية حيث أسس “كرسيّ الإسكندرية” الذي امتد بعد استشهاده إلى “النوبة” و”السودان” و”إثيوبيا”.
ومع تعدد ألقاب “مار مَرقس الرسول”، أريد الإشارة اليوم إلى دوره في بعض بلاد “أفريقيا” ـ وبخاصة “مِصر” ـ ضد “الوثنية”، حتى إنه لُقب بـ”مبدِّد الوثنية” إذ كانت تلك البلاد لا تعرف إلا عبادة الأوثان، فقد جال يبشر بالإيمان بالله حتى تحول كثيرون على يديه عن عبادة الأوثان، واهتزت الديانة الوثنية وضعفت جدًّا وقُضي عليها.
مدينة “الإسكندرية” والتحدي
تبدأ قصة “مار مَرقس” في “الإسكندرية” التي كان قد أسسها “الإسكندر الأكبر” على نسق المدن اليونانية لتصبح مركزًا جديدًا لتجارة الشرق والغرب ونقطة التقاء بينهما، بل أضحت مركزًا ومنارًا ثقافيًّا عالميًّا للعلوم والمعارف في القرن الثالث ق. م.، وباتت عاصمة “مِصر” وعاصمة العالم الثقافية!! واشتُهرت بها “مدرسة الإسكندرية” التي كانت مركزًا للعلوم والفلسفات ونالت مكانة عالمية كبيرة حتى صارت وجهة كبار العلماء والفلاسفة وطالبي العلم من جميع أنحاء العالم، والتي كانت تحتوي مكتبتها الشهيرة على آلاف من المخطوطات في مجالات الحياة كافة.
أما عن الوضع الدينيّ، فقد كانت “الإسكندرية” تشتمل على عدد كبير من الديانات الوثنية، منها: الديانات الفرعَونية القديمة بآلهتها مثل “آمون ملك الآلهة” و”رع إلٰه الشمس”، و”باخت إلٰهة الحرب”، إضافة إلى الآلهة المحلية مثل “بتاح إلٰه مدينة منف” وغيرهم كثيرون، مع آلهة أجنبية عبدها المِصريُّون من خلال اتصالهم بالحضارات المجاورة مثل عبادة الآلهة “ديدون” و”بعل” و”عنات” و”عشتاروت”.
أيضًا انتشرت عبادة الآلهة اليونانية برئاسة “زيوس” كبير آلهتها، واختلطت العبادات المِصرية واليونانية لتقدم آلهة جديدة مثل “سيرابيس”. كذٰلك جلب الرومان آلهتهم بزعامة “ﭼوبيتر” إلى “مِصر”؛ وإلى جانب كل هٰذه انتشرت الديانة اليهودية إبان حكم البطالسة.
وجنبًا إلى جنب كان تحدٍّ ثقافيّ: إذ كان يقطن “الإسكندرية” قرابة نصف المليون نسمة ـ وفي بعض التقديرات ثلاثة أرباع المليون: من مِصريِّين ويونانيين ويهود ورومان وأحباش ونوبيِّين وفرس وغيرهم من الأجناس؛ فتنوعت وتباينت الثقافات. وبذٰلك صارت مدينة الإسكندرية تحديًا دينيًّا وثقافيًّا كبيرًا لأيّ مبشر، فكان على “مار مَرقس” أن يتصدى لديانات وعبادات متنوعة، وثقافات متباينة، وفلسفات متعددة.
“مار مَرقس” في “الإسكندرية”
دخل “مار مَرقس” مدينة “الإسكندرية” منهوكًا بعد سير طويل حتى تمزق حذاؤه! فالتقى إسكافيًّا يُدعى “إنيانوس” بشره بالمسيحية وبعبادة الإلٰه الواحد فآمن هو وأهل بيته. ثم أخذ “مار مَرقس” يجول أرض “مِصر”، مقدمًا البشارة المَسيحية للمِصريِّين فآمن عدد كبير منهم، رافضين عبادة الأوثان. وهٰكذا انتشر الإيمان بالله في رُبوع “مِصر” سريعًا. وإزاء التحديات الفكرية والفلسفية، أسس “مار مَرقس” مدرسة “الإسكندرية اللاهوتية” التي درّست العلوم الدينية وإلى جانبها علوم الفلسفة، والمنطق، والطب، والهندسة، والموسيقا، وغيرها من العلوم؛ لتستطيع التصدي للأفكار الوثنية آنذاك.
وأخذ يهتم “مار مَرقس” بافتقاد شعبه المؤمن، ولم يفتر عن أن يجول في البلاد المِصرية يبشر ويعظ ويعلم حتى اهتزت الديانة الوثنية. وعندما فطِن الوثنيُّون للخطر الشديد على دياناتهم، قرروا التخلص من “مار مَرقس”؛ فاستُشهد على أياديهم عام 68م، لٰكن بعد أن تزعزعت أسس الوثنية. وبمضي الأيام، تضاءلت الديانة الوثنية حتى انتهت تمامًا من “مِصر”: فكانت تلك هي ثمرة ما قدمه “مار مَرقس” لـ”مِصر” حتى استحق أن يلقَّب بـ”مُبَدِّد الوثنية”. و… والحديث في “مِصر الحلوة” لا ينتهي …!
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأرثوذكسيّ