قدٍم «مار مَرقس الرسول» إلى «الإسكندرية»، وسرعان ما بشر فيها بالمسيحية وبعبادة الله؛ فاهتزت أسس العبادات الوثنية فى «مٍصر»؛ وقد خلفه على كرسى مدينة «الإسكندرية» عدد من الآباء البطاركة الذين حفِظوا وديعة الإيمان. واليوم أتوقف قليلاً عند أحد أبطال الكنيسة المِصرية، لا «مِصر» فحسب بل العالم بأسره، بطل نحتفل اليوم بعيد نياحته: «البابا أثَناسيوس الرسولى» العشرين فى الآباء بطاركة الكرازة المَرقسية.
لم تكُن حياة «البابا أثَناسيوس» بالسهلة، ولا الطريق الذى اختار أن يسلكه فى حفظ ما تسلمته الكنيسة من إيمان بالأمر اليسير، بل كان شاقًّا بالغ الشقاء! فقد احتمل فيه عديدًا من الاتهامات الباطلة، والإهانات، والنفى عن كرسيّه مرات طويلة؛ وفى كل ذلك اختار «البابا أثَناسيوس» الصمود فى دفاعه عن الحق والإيمان، ولو تصدى للعالم بأسره!! حتى إنه أُطلق عليه: «أثَناسيوس كونترا موندوم» أى «أثَناسيوس ضد العالم»!! وقد كتب عنه أحد المؤرخين: «… وما التعبير المشهور (أثَناسيوس وحده صار ضد العالم وصار العالم كله ضده) إلا تعبير جيد عن جُرأته الفريدة الحرة، وأمانته التى لا تهتز من جهة ما يؤمن به…».
ضد «أريوس»
عُقد مجمع لأساقفة من جميع أنحاء العالم بمدينة «نيقية» عام ٣٢٥م بأمر الإمبراطور «قسطنطين الكبير»؛ لمناقشة أفكار أريوس التى أخذ يبُثها فى العالم. وحين عرض أريوس أفكاره فى الإيمان، رفضها الآباء الأساقفة الحاضرون المجمع؛ وقد انبرى الشماس «أثَناسيوس» وقتذاك بغيرة متقدة – وقد كان مرافقًا «للبابا ألكسندروس» – للدفاع عن الإيمان: فطفِق يُفحم بردوده القوية وحججه الدامغة «أريوس»، مثبتًا فساد رأيه وضلاله؛ ما أدى إلى اندهاش الحاضرين جميعًا من ذٰلك الشاب المدافع عن الإيمان بنبوغ وبلاغة باهرتين، وهو لم يتجاوز عامه الثلاثين بعد!! وقد ذُكر أن الإمبراطور «قسطنطين الكبير» كان حاضرًا، وقال له: «أنت بطل كنيسة الله».
وقد وضع آباء المجمع (٣١٨ أُسقفًا) «قانون الإيمان» النيقاوى ووقعوه جميعًا، فى حين رفض «أريوس» ومؤيدوه التوقيع؛ فأصدر آباء المجمع قرارًا بحرمانهم، ونُفى «أريوس».
ضد الأريوسيَّين
لم يكُن قرار الحرمان ونفى «أريوس» هما النهاية، بل على النقيض: كانت البداية لرحلة من الآلام والأتعاب شهِدها البطل المٍصرى!! فقد وشى به الأريوسيون لدى الإمبراطور: بأنه قرر ضريبة جديدة على «مِصر» من أجل جمع الأموال للكنيسة! وأنه يساعد أعداء الإمبراطورية، ويُعد لثورة على الإمبراطورية!! ولم يهدأ الأريوسيون عن محاولات إلصاق التهم بـ«البابا أثَناسيوس»، لكنهم فشِلوا فى إثباتها.
ضد أباطرة
لم يهتز صمود «البابا أثَناسيوس» أمام الملوك والوُلاة والأباطرة بل ثبت فى الحق، حتى إنه نُفى خمس مرات: كانت المرة الأولى من «قسطنطين الكبير» الذى خدعته اتهامات الأريوسيِّين، ثم عاد إلى كرسيّه عام ٣٣٧م على يد «قسطنطين الثانى»؛ ثم عُزل مرة ثانية إلى روما ٣٣٩م- ٣٤٦م بأمر الإمبراطور الأريوسى «قسطنطينوس»؛ وفى ٣٥٦م نُفى مرة ثالثة بأمر «قُسطَنطِيوس الثانى»، فذهب إلى الصحراء حتى عاد فى ٣٦٢م؛ وبعد أشهر قليلة نُفى مرة رابعة بأمر الإمبراطور «چوليان» المرتد إلى الوثنية، ليعود فى ٣٦٤م؛ أمّا النفى الخامس فكان بيد الإمبراطور «ڤالِنس» عام ٣٦٥م فثار الشعب ثورة عارمة لم تهدأ حتى عاد البابا فى ٣٦٦م. وقد تنيح «البابا أثَناسيوس» عام ٣٧٣م.
وفى جميع تلك الأحداث التى حُفرت على صفحات التاريخ بنُدرة فريدة، لم يتوقف «البابا أثَناسيوس» عن خدمة رعيته وافتقادها بالتَّجوال فى البلاد بين أفرادها فى أثناء فترات الهدوء القليلة التى شهِدها، أو بالرسائل إليها أوقات نفيه.
وبالحق كما قيل عنه: لقد «كان أثَناسيوس بمفرده فى وقت من الأوقات ـ وحده ـ حاملاً للحق، ولذٰلك سُمى فيما بعد (أبوالأرثوذكسية)؛ وأيضًا: «إن ذٰلك الرجل عظيم، وقد طبع على الكنيسة طابعًا لا يمحوه الدهر»، و… والحديث عن «مِصر الحلوة» لا ينتهى!
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأُرثوذكسى