تحدثنا فى المقالة السابقة عن «ڤاليريان قيصر» الذى أشرك ابنه «جاللينوس» فى الحكم معه. وقد اضطهد «ڤاليريان» المسيحيِّين اضطهادًا شديدًا بسبب وِشاية أحد كهنة المعابد المِصرية القديمة. وفى حربه ضد الفرس هُزم « ڤاليريان» وأُسر، وعاش بقية أيامه عبدًا، ومات فى الأسر. أمّا ابنه «جاللينوس» فقد قُتل هو أيضًا على يد جنوده، ثم أعقبه فى الحكم «كلوديوس الثانى»، ومن بعده تولى العرش «أورِليان قيصر» الذى قٌتل بيد جنوده، فحكم روما من بعده «تاكيتوس قيصر».
«تاكيتوس قيصر» (275 – 276 م)
ظل عرش روما دون إمبراطور لعدة أشهر من موت «أورليان قيصر»، ما أتاح الفرصة لأعداء الإمبراطورية لأنْ يجتمعوا بعضهم إلى بعض على محاربة روما وإسقاطها. وحين وصلت الأخبار مجلس شيوخ روما وأدركوا الخطر القادم على البلاد، قرروا اختيار قيصر للبلاد لدَرء الأعداء عنها وحمايتها، فاجتمعت كلمتهم على اختيار أحد أعضاء المجلس وكان يُدعى «تاكيتوس» ليكون حاكمًا للبلاد.
وقد كان «تاكيتوس قيصر» مشهودًا له بالحكمة والتعقل، بالإضافة لما له من معرفة كبيرة بالأدب والخطابة، ذا نسب يعود إلى المؤرخ اليونانى «كُورنيليوس تاسيتوس» (56-120 م)، إلا أنه لم تكُن له دراية بأمور الجيش أو الحروب، ما أدى إلى نشوب الخلافات بينه وبين جنوده، الذين كانوا لا يكِنُّون له أى مهابة. وقد زادت الخلافات بشدة إلى أن وقعت فتنة كبيرة أدت إلى مقتله على يد مجموعة من جنوده، بعد أن حكم روما مدة لم تصل إلى سنة.
أمّا عن دور هذا القيصر فى مِصر، فكان ضعيفًا، عدا اكتشاف مجموعة من النقود التى سُكت فى عصره وتحمل اسمه.
«بروبوس قيصر» (276 – 282 م)
التحق بالخدمة العسكرية فى الجيوش الرومانية، وأتقن الفنون العسكرية حتى ترقى فى المناصب. وكان إنسانًا صالحًا، شجاعًا، مستقيمًا، يهابه الجميع ومحبوبًا لدى جنوده، لذا أُطلق عليه اسم «بروبوس» الذى يعنى «الصالح».
ويذكر أحد المؤرخين أنه عند اختياره قيصرًا على روما لم يقبل أولًا أخذ الحُلة الملوكية المقدمة إليه، معلِّقًا أنها أكبر منه. وعندما ألحوا عليه أخذها وقال: (لعلكم قلدتمونى المنصب قبل أن تعرفوا أحوالى وتختبرونى، وقد أرى أنكم ستندمون على ذلك! فإنى لا أُراعى أحدًا منكم فى الأحكام، ولا تأخذنى فى الله لومة لائم).
أمّا عن مدة حكمه، فقد قدَّم إلى البلاد فيها كل ما يمكنه من صنيع، فقد حصّن الحدود، وقام بحماية الثُّغور، ومنع الأعداء من الاقتراب من البلاد أو مهاجمتها. وكان يملك ثقة شديدة بالنفس وشجاعة لا يُستهان بها، إذ كان قد جهز جيوشه وأعدها لمواجهة أعدائه، خرج عليهم جميعًا مرة واحدة وانتصر عليهم نصرًا عظيمًا. كذلك قهر الفرس فى حروبه ضدهم وأذلهم بنصر عظيم، وعاد إلى روما بأسرى وغنائم من البلاد التى هزمها.
وكانت مهابته فى أعين شعبه والبلاد من حوله عظيمة، ما أتاح له الفرصة فى إدارة شؤون البلاد بقدرة شديدة، مكنته من السيطرة على زمام أمور الإمبراطورية. ونتيجة هذا، انتشر الأمن فى ربوع البلاد، وازدهرت التجارة والزراعة والصناعة. وعم البلاد السلام فى أيام حكمه، فاستخدم جنودَ الجيوش فى الخدمات العامة التى تحتاجها الإمبراطورية، من: ردم مستنقعات، وبناء قناطر وجسور، وإصلاح ما يحتاج إلى همم الرجال وعزيمتهم. إلا أن الجنود تذمروا على العمل الموْكَل إليهم فقاموا عليه وقتلوه. وتُردَّد قصة أنه خاطب قواد جيوشه يومًا ما قائلًا: (سيأتى على يوم لا أحتاج فيه إلى جندى منكم ولا جنود). ويعلق أحد المؤرخين على هذا قائلًا: (كان «بروبوس قيصر» يقصِد أن العدل بين الرعية يُغنى الحاكم عن الجيوش، إذ يكون فى سلام وأمن كمثال القول: «لو أنصف الناس لاستراح القاضى، وبات كلٌّ عن أخيه راضيًا»).
أمّا عن مِصر فى أيامه، فقد استمرت ثورة أهالى صَعيد مِصر ـ والتى بدأت أيام «أورِيليان قيصر» ـ فأتى إليهم بجيوشه وقاتلهم حتى انتصر عليهم تاركًا الأمير «ساترنيوس» واليًا على مِصر. وبعد زمن قليل، حاول «ساترنيوس» الاستقلال بحكم مِصر بمعاونة رومان الإسكندرية، إلا أنه قٌتل بعد فتنة شديدة قامت ضده، وبموته عادت البلاد إلى الإمبراطورية. ثم قام «بروبوس قيصر» بوضع حاكم آخر على مِصر هو «أخليس/ أخيليس»، الذى لم يكَد يستقر فى الحكم إلا ورغِب فى الاستقلال بالبلاد المِصرية بمعاونة بعض وُجهاء الدولة، إلا أنه قُتل هو أيضًا وعادت مِصر تحت حكم روما. ويذكر بعض المؤرخين أن «بروبوس قيصر» أحسن إدارة مِصر عاملًا على ازدهار الحياة بها. وقد وُجد كثير من النقود التى سُكت فى عهده.
وكانت مدة تولى «بروبوس قيصر» الحكم سبْع سنوات، ويُعد موته خَسارة فادحة على الإمبراطورية، وقد تولى حكمها من بعده «كاروس قيصر».
«كاروس قيصر» (282 – 283 م)
كان «كاروس» رئيس جند الحرس الملوكى، فسار إلى روما بعد اختيار الجنود إياه لكى يطلب إلى مجلس الشيوخ تنصيبه إمبراطورًا على العرش، وبالفعل أعلن مجلس الشيوخ «كاروس» قيصرًا. وما إن تولى الحكم حتى وهَب ولديه لقب «أُغسطس».
وفى أيام حكمه، عاد الفرس إلى الإغارة على البلاد الرومانية فأعد الجيوش لمقاتلتهم. وبعد حروب ضارية تمكن من هزيمتهم، إلا أنه فى طريق العودة إلى روما قام عليه الجنود وقتلوه بعد حكم استمر سنة وخمسة أشهر. وتولى الحكم من بعده ولديه «كارينوس» و«نوميريان».
«كارينوس» و«نوميريان» (283 – 285 م)
حكم الأخوان «كارينوس» و«نوميريان» معًا، إلا أنه كان لكل منهما شخصية مغايرة للأخرى. كان «نوميريان» دمث الأخلاق، بليغ الكلام، حتى إنه لُقب «خطيب العصر» من مجلس شيوخ روما، وكان شاعرًا أيضًا. أمّا «كارينوس» فكان على النقيض من أخيه، يجلس فى مجالس المستهزئين، ويبالغ فى ارتداء اللآلئ والجواهر، وكان يحاول التقرب إلى الجنود وأهالى البلاد من خلال إقامة الولائم لهم.
وعند اشتعال الحرب ضد الفرس من جديد، سار «نوميريان» بجيوشه إلى فارس لمحاربتهم، وهناك مات فجأة دون معرفة سبب لموته. وإن كان قد ذكر أحد المؤرخين أنه قد قُتل بيد أبى زوجته الذى رغِب فى الاستيلاء على منصبه، إلا أن «دقلديانوس» رئيس غِلمانه قام بقتله انتقامًا للإمبراطور المقتول. وتذكر إحدى القصص أيضًا فى هذا الصدد أن إحدى العرافات أخبرت «دقلديانوس» أنه سيكون ملكًا على بلاد عظيمة، فكأن ذلك كان بالنسبة إليه دافعًا وتحقيقًا لهذه النبوءة.
سار «دقلديانوس» بالجيش إلى روما، وهناك واجه القيصر «كارينوس» الذى ما إن علِم بما حدث لأخيه وأمْر إعلان «دقلديانوس» قيصرًا، حتى هبّ لمواجهته، فتقاتل الاثنان قتالاً شديدًا حتى هُزم «دقلديانوس». وفى أثناء مطاردة «كارينوس» إياه، قام الجنود على القيصر وقتلوه فى الطريق. وبهذا صار «دقلديانوس» قيصرًا لروما!
و… والحديث عن مصر لا ينتهى…!
الأسقف العام ورئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى