تحدثنا فى المقالة السابقة عن «المُعِزّ لدين الله» الفاطمى واهتمامه بضم «مِصر» إلى حكمه ثم قدومه إليها؛ وقد عرضنا لبعض ملامح شخصيته كذكائه الشديد، وقدرته على تعلم عدد من اللغات؛ ويذكر لنا «ابن التَّغْرى»: «وكان «المُعِزّ» عاقلاً حازمًا أديبـًا جوادًا ممدحـًا، فيه عدل وإنصاف للرعية… قد أتقن فنونـًا من العلم والأدب»؛ وكان يحب التقرب إلى الرعية ويزودهم بنصائحه ومنها ما ذكره القاضى «نعمان المغربى» عنه: «أريد منكم ثلاثـًا، وأكره لكم ثلاثـًا: أريد منكم الصدق وأكره لكم الكذب، وأريد منكم العفاف وأكره لكم الخيانة، وأريد منكم التواضع وأكره لكم الكِبر. وهٰذا أخوَف ما أتخوفه عليكم».
ويُذكر أنه كان شديد الولع بالمناقشات الدينية فكان يجمع إليه فى مجلسه رجال الدين من المسلمين والمَسيحيِّين واليهود للمجادلة. وكان «يعقوب بن كِلِّس» – اليهودى الأصل- وزيرًا لدى الخليفة «المُعِزّ»، وكثيرًا ما كان يحضر صديقًا يهوديًا له ويدخل به إلى «المُعِزّ» ويتحدث معه، فصارت لذلك الصديق دالة لدى الخليفة حتى إنه سمع له فى أمر استحضار البابا البطريرك- وكان آنذاك «البابا أبرام بن زرعة»- ليجادله فى أمور الدين، فحضر البابا مصطحبـًا «أنبا ساويرس بن المقفع» أسقف الأشمونين، وجادلهما اليهودى وهما يقدمان الحجج الدامغة المؤيدة لصحة المَسيحية؛ فأكرمهما «المُعِزّ» خير إكرام.
ولم تمضِ بضعةُ أيام حتى حادث الوزير «يعقوب» مرة أخرى الخليفة «المُعِزّ»، محاولاً الإيقاع بالمَسيحيِّين: فذكر أن آية فى الإنجيل تقول: «لو كان لكم إيمان مثل حبة خَردَل، لكنتم تقولون لهٰذا الجبل انتقل من هنا إلى هناك فينتقل»؛ وطلب إلى «المُعِزّ» أن يستدعى البابا البطريرك ويأمره بتنفيذ نص الآية وبإثبات صدق إيمانه. وبالفعل طلب «المُعِزّ» استدعاء «البابا أبرام بن زرعة» وعرَض عليه الأمر، فاستأذن الأب البطريرك فى مهلة ثلاثة أيام فأمهله الخليفة. وما إن خرج البابا من محضر الخليفة، حتى جمع إليه بعض الآباء الأساقفة والرهبان، ومكثوا بـ«كنيسة السيدة العذراء بمصر القديمة» الشهيرة بـ«المُعَلَّقة» ثلاثة أيام فى صوم وصلاة، طالبين معونة الله وإرشاده. وفى الليلة الثالثة، رأى الأب البطريرك رؤيا: ظهرت له «السيدة العذراء» وأخبرته عن إنسان دبّاغ يُدعى «سمعان الخرّاز» أنه هو من ستظهر هذه الأُعجوبة على يديه.
أطاع الأب البطريرك الرؤيا واستحضر الرجل البارّ «سمعان الخرّاز» إلى الكنيسة، وأخبره بالأمر، وألح عليه حتى أخبره بما سيفعله. وفى الموعد، خرج الخليفة «المُعِزّ» ورجال الدولة إلى «جبل المقطم»، ووقف الأب البطريرك و«سمعان الخرّاز» ومن معهما فى جانب، فى حين وقف «المُعِزّ» ورجاله فى الجانب الآخر. وأخذ يصلى «البابا أبرام» ومن معه، وتضرعوا إلى الله مرددين عبارة: «كيريى إليسون» (التى تعنى: «يا رب ارحم»)، ثم سجدوا ثلاث مرات؛ وقد حدث أنه عندما كان يرفع الأب البطريرك والشعب رؤوسهم من كل سجدة يرتفع الجبل، وكلما سجدوا نزل الجبل إلى الأرض، وكلما مشَوا إلى الأمام تراجع الجبل. ولم يزَل الأمر هٰكذا حتى وقع الرعب على الخليفة، وطلب من البابا أن يتوقف فورًا لئلا تنقلب المدينة. وكان بعد تلك الواقعة أن سمح الخليفة «المُعِزّ» للبابا أن يطلب ما يشاء فلم يفعل، حتى ألحّ عليه فذكر له البابا أنه يرغب فى إعادة بناء «كنيسة الشهيد مِرقوريوس (الشهير بأبى السيفين) بمِصر القديمة وعمارة الكنائس، فاستجاب له الخليفة وكتب له منشورًا بذٰلك. وعندما قدّم الخليفة أموالاً من بيت المال «للبابا أبرام» شكره وامتنع عن قَبولها. وقد حاول أناس التعرض لبناء الكنيسة؛ فأرسل الخليفة «المُعِزّ» قوة عسكرية حتى وُضع الأساس، وقيل إن الخليفة حضر بنفسه.
وفى أيام حكم «المُعِزّ» على «مِصر»، قام الخليفة العباسى «المطيع» بخلع نفسه، بعد أن ثقل لسانه وفقد قدرته على الحركة، مسلّمـًا الحكم لابنه «الطائع لله عبدالكريم»؛ ثم تُوفى بعد ذٰلك بقليل. و… والحديث فى «مصر الحلوة» لا ينتهى.
الأسقف العامرئيس المركز الثقافى القبطى الأُرثوذكسى