بدأ الحديث فى المقالة السابقة عن «البابا زخارياس» الرابع والستين فى بطاركة الإسكندرية الذى اختير فى أيام «الحاكم بأمر الله»، وعن الضيقات التى تعرض لها ومنها شدة اضطهاد المَسيحيِّين، واتهامه ظلمًا بمكاتبة ملوك «النوبة» و«الحبشة» فى أمور البلاد؛ ما دعا «الحاكم بأمر الله» أن يأمر بالقبض على البابا البطريرك وبعض الأساقفة، ثم أمر بإلقائه مع أحد الرهبان إلى الأسود، لٰكنها لم تضرهما. ويستكمل «القَسّ مَنَسَّى يوحنا» وصف ما حدث: «فعاقب الحاكم متولى أمر السباع، وتوهم أن امتناعها ناشئ عن كثرة أكلها؛ فأبقاها مدة بغير طعام، ثم ذبح خروفًا ولطخ بدمه أثواب البطريرك والراهب وألقاهما أمامها، ففعلت كالأول، فأعيدا إلى الحبس. واستمر الحاكم مدة تسع سنوات يضطهد الأقباط…»!!، وظل الأمر هٰكذا، والبابا البطريرك ثابت أمام ما يتعرض له من آلام، مرددًا: «اعتمادى على الله الذى له القدرة وهو يعيننى»، حتى تدخل أحد الأمراء، وطلب إلى «الحاكم بأمر الله» الإشفاق على «البابا زخارياس»؛ فأمر بنفيه إلى أحد أديرة «برية شيهيت»، مشددًا بعدم مغادرته المكان وعدم مكاتبته البطاركة وملوك «النوبة» و«الحبشة» إلا بعد عرضها عليه ومعرفة ما بها. كذٰلك أرسل الحاكم إلى الملوك طالبًا أن تكون المكاتبات إليه مباشرة. واستمرت الأمور على تلك الحال مدة تسع سنوات والتى باتت إحدى المحن الشديدة التى مرت بأقباط «مِصر»، تعرضوا فيها لكثير من الأحزان والمتاعب والضيقات، ولتهديم كنائس كثيرة جدًّا.
رفع الاضطهادات
وكما ذكرنا سابقًا، فإن «الحاكم بأمر الله» قد أعطى «المَسيحيِّين» و«اليهود» الراغبين فى العودة إلى دينهم إذنًا بذٰلك. وتذكر كتب التاريخ الكنسىّ أن راهبًا يُدعى «بِيمِن» ترك دينه وكانت له حظوة كبيرة لدى الحاكم؛ وبعد زمن أراد العودة إلى «المَسيحية» فسمح له الحاكم، بل نجح فى استصدار أمر منه برفع الاضطهادات عن المَسيحيِّين. وعاد الراهب «بِيمِن» إلى «كنيسة أبى السيفين»، وكان الخليفة «الحاكم بأمر الله» يتردد عليه هناك؛ وفى إحدى تلك الزيارات شاهد الخليفة «البابا زخارياس» وتعجب من ثيابه الرثة يحوط به جماعة من الأساقفة، وتساءل عن سلطانه ونفوذه؛ ويذكر «ساويرس ابن المقفع» أنه حينما رأى الحاكم «البابا زخارياس» والآباء الأساقفة، خاطبهم: «هٰذا مقدَّمكم كلكم؟!، قالوا له: نعم، يا مولانا، الرب يثبت مُلكك. فتعجب، وقال لهم: إلى أين ينتهى حكمه؟ فقالوا له: ينفُذ حكمه فى ديار «مِصر» و«الحبشة» و«النوبة» و«الخمس مدن الغربية» و«إفريقية» وغيرها. فازداد تعجبه، وقال: «كيف يُطيعه هٰؤلاء كلهم بلا عساكر ولا مال ينفقه فيهم؟!، قالوا له: بصليب واحد تطيعه هٰذه القبائل كلها…»؛ فازداد الحاكم تعجبًا. ويذكر «القَسّ مَنَسَّى يوحنا»: «فأدار الخليفة وجهه وخرج من الكنيسة، وهم لا يدرون ما عزم أن يفعل بهم، ولبِثوا فى الكنيسة ينتظرون الهلاك المريع… وبعد بضع ساعات، ضجت الكنيسة كلها لسماعها نبأ رجوع الخليفة إليهم… وإذا الخليفة يسلّم البطريرك فرمانًا بإباحة الحرية للأقباط ورد جميع ما سُلب منهم…»!!.
وكان بعد ذٰلك أن اهتم «البابا زخارياس» بتعمير ما هُدّم من الكنائس وبنائها، وظل على تلك الحال قرابة اثنَى عشر عامًا؛ وقد بُنى فى عهده «دير شهران» المعروف باسم «دير أنبا برسوم العريان». واستمر «البابا زخارياس» على الكرسىّ المَرقسىّ سبعة وعشرين عامًا تقريبًا، قضى منها تسعة أعوام فى نفيه ببرية شهييت، وقد تنيح عام 1032م، ثم خلفه «البابا شنوده الثانى»، وكان ذٰلك فى أيام حكم «الخليفة الظاهر» ابن «الحاكم بأمر الله». و… والحديث فى «مِصر الحلوة» لا ينتهى!.
الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى