تحدثنا فى المقالة السابقة عن «الخليفة الظاهر» ابن «الحاكم بأمر الله» (411-427هـ) (1021-1036م)، الذى كان رابع خلفاء «الدولة الفاطمية» فى حكم «مِصر» وهو لم يتخطَّ السادسة عشرة بعد، والذى كان الحكم الفعلىّ- منذ توليه- لعمته «ست الملك» حتى وفاتها عام 414هـ (1023م) أو 415هـ (1024م).
وجاءت المرحلة الثانية من حكم الخليفة «الظاهر» بعد وفاة عمته، حيث ولَّى الوَِزارة لـ«نجيب الدولة علىّ بن أحمد الجرجائىّ» الذى ـ بحسب ما ذكر المؤرخون ـ كان مقطوع اليدين بعد أن أمر «الحاكم بأمر الله» بقطعهما عام 404هـ (1013م). وقد ذكر بعض المؤرخين عن «الظاهر» أنه كان يتسم بالعقل والجود والسماحة مع كثرة الصدقات والحِلم والتواضع، وأنه: «أزال الرسوم التى جددها أبوه «الحاكم» إلى خير، وعدل فى الرعية، وأحسن السيرة، وأعطى الجند والقواد الأموال… »؛ وقد أمر بتجديد «كنيسة القيامة» بالقدس التى هدّمها «الحاكم»، فقد كتب «حسن خليفة»: «وكان «الظاهر» سمحًا، عاقلاً، لين العريكة، استطاع بحسن سياسته أن يكتسب عطف أهل الذمة ومحبتهم له، فتمتعوا فى عهده بالحرية الدينية… وأبرم مع إمبراطور الدولة البيزنطية ـ حرصًا على توطيد العَلاقات بين البلدين ـ معاهدةً تنص على تجديد «كنيسة القيامة» التى هدّمها أبوه «الحاكم» فى «بيت المقدس»، على أن تمُده هٰذه الدولة بالحبوب».
وقد اهتم «الظاهر» بترقية شُؤون البلاد وتحسين الزراعة؛ وذُكر أنه فى عام 417هـ (1026م) انتشر وباء أصاب بعض الحيوانات التى تُستخدم فى زراعة الأرض؛ فما كان منه إلا أن أصدر أمرًا بمنع ذبح الأبقار الصحيحة التى تصلح لحرث الأرض إبقاءً على العمل والزراعة؛ ومما كتبه لرعيته: «إن الله تعالى ـ بتتابع نعمته وبالغ حكمته ـ خلق دُروب الأنعام وعمِل فيها منافع الأنام؛ فوجَب أن تُحمى البقر المخصوصة بعمارة الأرض، المذللة لمصالح الخلق؛ فإن فى ذبحها غاية الفساد، وإضرارًا للعباد والبلاد»؛ فاستجابت الرعية لكلمات الخليفة، ومنعت ذبح الأبقار، وتحسنت الأمور. كما بنى الخليفة «الظاهر» قصر اللؤلؤة الذى يعد من أجمل القصور التى شُيدت فى العصر الفاطمىّ، وهو يقع قرب القصر الغربىّ الصغير عند «باب القنطرة»، وظل على جماله ورونقه حتى حل الغلاء بالبلاد فى عصر ابنه «المستنصر» ـ وسيأتى الكلام عن تلك الحقبة فى مكانها. إلا أن بعض المؤرخين يعتقدون أن كثيرين كان لهم تأثير فى أمور حكم البلاد فى عصر «الظاهر»؛ فيذكر «ابن التَّغْرىّ»: «وكان المتغلبون على البلاد فى أيام «الظاهر» كثيرين جدًّا، وذٰلك لصغر سنه وضعف بدنه».
وعام 420هـ (1029م)، ثار «صالح بن مرداس الكلابىّ»، وتوجه إلى مدينة «حلب»؛ فحاصرها إلى أن تمكن من الاستيلاء عليها؛ فيذكر «ابن التَّغْرىّ» عن «المظفَّر»: «واستقام له الأمر مدة (يقصد «الظاهر»)؛ وولى نوابه بالبلاد الشامية، إلى أن خرج عليه «صالح بن مِردَاس الكلابىّ» وقصد «حلب» وبها «مرتضى الدولة أبو (نصر بن) لؤلؤ الحمدانىّ» نيابةً عن «الظاهر» هٰذا؛ فحاصرها «صالح» المذكور إلى أن أخذها»، كذٰلك قام شخص يُدعى «حسان بن المفرج» حاكم «الرملة» واستولى على أغلب «الشام»؛ وقد جهز «الظاهر» جيشًا وحاربهما حتى انتهت المعارك بهزيمة «حسان» وقتل «صالح». وعام 422هـ (1031م) تُوفى الخليفة العباسىّ «القادر بالله»؛ وخلفه الخليفة «القائم بأمر الله».
وعام 427هـ (1035م)، أرسل «الظاهر» أموالاً لإصلاح نهر بـ«الكوفة» ووصله بماء «نهر الفرات»؛ فذكر «عبد العزيز جمال الدين» أنه كانت: «السنة السادسة عشْرة لحكم الخليفة الفاطمىّ «الظاهر» لإعزاز الدين فى «مِصر»؛ وفيها بعث «الظاهر» خمسة آلاف دينار لشق قناة مدينة «الكوفة» بالعراق؛ ولم يأذن الخليفة العباسىّ بذٰلك إلا بعد أن أخذ مشورة رجال الدين من أهل السنة»؛ وفى العام نفسه تُوفى الخليفة «الظاهر» بعلة الاستسقاء، وتولى الخلافة بعده ابنه «مَعَدّ» ولقب بـ«المستنصر بالله»، ليكون خامس خلفاء «الدولة الفاطمية» بـ«مصر»، و… والحديث فى «مِصر الحلوة» لا ينتهى!.
الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى