تحدثنا فى المقالة السابقة عن الصراع بين «طُغْريل بك» و«البَساسِيرى» فى أثناء حكم الخليفة العباسىّ «القائم بأمر الله»، وحكم «أَلْب أرسلان» السِّلچوقىّ إلى أن تُوُفِّى الخليفة عام 467هـ (1074م) وخلفه حفيده «المقتدى بأمر الله».
الخليفة العباسىّ «المقتدى بأمر الله» (467-487هـ) (1075-1094م)
هو «أبوالقاسم عبدالله»، ابن الأمير «ذخيرة الدين أبى العباسىّ محمد»، ابن الخليفة «القائم بأمر الله»، وقد لقب بـ«المقتدى بأمر الله» (أو «المقتدى بالله»). وقد تُوُفِّى أبوه قبل ولادته بستة أشهر. وبعد وفاة جده الخليفة «القائم بأمر الله»، وهو متخطٍّ التاسعة عشْرة بأشهر قليلة. وقد كان عهده رخاءً فى «بغداد» وقوةً فى المشرق؛ فقد ذكر المؤرخون عنه أنه من خيرة خلفاء الدولة العباسية فكتب «حسن خليفة»: «وكان قوىّ النفس، عظيم الهمة، تقيا، محبًّا للفضائل؛ فأصلح كثيرًا من الأحوال الأدبية ببغداد…»؛ كما ذكر «ابن التَّغرىّ»: «وكان المقتدى من رجال بنى العباس، له همة عالية، وشجاعة وافرة، وظهرت فى أيامه خيرات، وخُطب له فى الشرق بأسره وما وراء النهر والهند وغزنة والصين والشام واليمن؛ وعمرت فى أيامه بغداد، واسترجع المسلمون فى أيامه الرهاء وأنطاكية…».
وكان القائم بأمور الدولة آنذاك السلطان السِّلچوقىّ «ملكشاه» ابن «أَلْب رسلان»، الملقب بـ«جلال الدولة»، الذى اتصف بالشجاعة والعدل إلى جانب صواب الرأى؛ مما جعل أيام سلطته تتسم بالأمن والأمان فى البلاد. وقد علا شأن العباسيين فى ذلك الزمان حيث تصدى بقوة للثائرين والخارجين. وقيل عنه إنه كان من أفضل سلاطين السلاچقة وأعدلهم، حتى إنه لقب بالسلطان العادل. وقد انتصر فى الحروب التى خاضها على أعداء الدولة. إلى جانب محبته وولعه بالتعمير؛ فقد حفر كثيرًا من الأنهار، وبنى الأسوار لعدد من المدن، وأنشأ عددًا من المصانع بطريق «مكة» جلبت له كثيرًا من الأموال، وأبطل الضرائب المفروضة على من يدخل البلاد من التجار، المعروفة بالمُكُوس، فى جميع أنحاء الخلافة.
ومن حكمة «ملكشاه» أنه أبقى فى خدمته وزير أبيه «نظام الملك» الذى قيل عنه: «وكان من أكابر العلماء، تقيا فاضلاً، محبًّا للعلم وذويه.»؛ وذُكر عنه أنه أفضل وزير شهِدته البلاد بعد «يحيى البرمكىّ» وزير هارون الرشيد- وقد سبق الحديث عنه باستفاضة فى مقالات سابقة. عمِل الوزير «نظام الدولة» بحزم إزاء فساد الأمن بالبلاد، وفى حكمته وحسن إدارته اهتم بتحسين أحوال البلاد المالية فارتقى بالتجارة والصناعة والزراعة وعم الرخاء، وأسقط كثيرا من المكوس والضرائب؛ فيذكر لنا «حسن خليفة»: «وبفضل إدارته الموفقة اتسع نفوذ ملكشاه؛ فخُطب له من حدود الصين شرقًا إلى آخر بلاد الشام غربًا؛ وعم البلاد الرخاء وأينعت التجارة والصناعة، وتقدمت الفنون والآداب، وازدانت المدن بالمدارس والكليات والمستشفيات، وعمرت الطرق، وشُقت القنوات، ونشطت الزراعة. وفى عهده، أصلح التقويم وعهد إلى لجنة من أكابر العلماء على رأسها الشاعر الكبير عمر الخيام لتقوم بضبط التواريخ، وابتداء السنين…». وهكذا فى اجتماع كل من الخليفة «المقتدى» والسلطان «ملكشاه» والوزير «نظام الدولة» اكتملت الأركان الأساسية فى نجاح الدولة العباسية وعظمتها فى تلك الأيام.
إلا أنه فى تلك الأيام أهمل «ملكشاه» أمر الدعاة الباطنيين الذين يدعون الناس إلى الثورة على الخلافة العباسية وطاعة الفاطميين؛ وحين أراد «نظام الدولة» ملاحقتهم أرسل الجيوش لتتبعهم والقضاء عليهم، فقاموا باغتياله على يد واحد منهم عام 485هـ (1092م)؛ وقد شهِد العام نفسه موت «ملكشاه» آخر سلاطين السلاچقة قوةً؛ إذ بعد موته حدثت انقسامات وفتن داخل أسرة السلاچقة أدت إلى سقوطها سريعًا: فقد تنازع أبناء «ملكشاه» الأربعة على السلطة، واندلعت الحروب بين أفراد الأسرة الواحدة. اغتنم الدعاة فرصة تلك الصراعات فاستولَوا على الأماكن الحصينة فى بلاد الفرس والعراق وسوريا؛ وأثناء تلك الأحداث المؤسفة تُوُفِّى الخليفة «المقتدى» عام 487هـ (1094م) وخلفة ابنه و… والحديث فى «مِصر الحلوة» لا ينتهى!.
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأُرثوذكسى