أهنئكم جميعًا بـ”عيد الميلاد المجيد”، متمنيًا للمِصريين جميعًا كل خير وسلام، ولبلادنا الحبيبة “مِصر” كل أمن ورخاء. وحين نتحدث عن “الميلاد”، نتذكر دائمًا تلك الرسالة التي قدمتها السماء إلى الرعاة: “المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرة”، معلنةً أنها “رسالة السلام”. ففي الميلاد، يتجلى “السلام والحب” اللذان طالما بحثت عنهما البشرية في رحلتها الطويلة عبر الأزمان، وظَلا مطلبين واحتياجين ماسَّين لكل إنسان دون أن يدري أنهما بين يديه! بل كائنان في أعماقه!! موهوبان من ملك السلام والمحبة!! وربما يتساءل البشر: أحقًّا يمكن أن يتأصل سلام وسْط عالمنا الذي أمسى كغابة مريعة، برية قاحلة؟!! ويصمت كثيرون، مترددين في الإجابة عن هٰذا السؤال!! لٰكن، دعوني أسرُِد عليكم صفحة من التاريخ الإنسانيّ تُعد من أكثر الأحقاب التي مرت بالبشرية ظلامًا!! لنرى معًا ما يمكن أن يفعله الميلاد في حياتنا متى انتبهنا إليه.
شتاء 1914م، في أثناء لهيب الحرب العالمية الأولى، تحديدًا على أرض “بلغاريا”، في ليلة “عيد الميلاد المجيد”، تعجب الجنود البريطانيُّون حين رأَوا عند خنادق العدُو “شجرة عيد الميلاد” مضاءةً بشموع؛ فقد وضع الألمان شموعًا على خنادقهم، وعلى أشجار “عيد الميلاد”. ثم فُتحت الخنادق التي كانت مغلقة دائمًا، وخرج الجنود الألمان ببطء منها، وهم يصيحون بإنجليزية ركيكة: “عيد ميلاد سعيدًا”! ثم قالوا: لن تُطلقوا النيران! ولن نُطلقها! وبحذر خرج نفر قليل من الجنود البريطانيِّين لتحيتهم، ثم تبِعهم آخرون، وشيئًا فشيئًا التقى الجانبان على الأرض الفاصلة بين الجبتهين؛ وهٰكذا صمتت طلقات النيران وتوقفت الحرب في “عيد الميلاد المجيد”.
خرج جميع الجنود من خنادقهم، يحيّي كلٌّ الآخر بتحيات الميلاد، وأخذوا يتبادلون الأحاديث الودية، ويُنشدون الترانيم التي انتهت بترنيمتين: “أيتها الليلة المقدسة”، و”الرب يحفظ المَلك”. ولم يتوقف الأمر، بل شرع بعض الجنود من الفريقين يلعبون كرة القدم؛ وجاءت النتيجة 3-2 للألمان. كذٰلك سمحت تلك الهدنة لكلا الجانبين بدفن الجنود القتلى حديثًا، وصلَّوا معًا. كانت لحظات نادرة من السلام.
وقد كتب أحد المجندين ويُدعى “لانس كوبر” خطابًا يقول فيه: “… إن ما أقوله الآن لَمن الصعب تصديقه، لٰكنه حقيقيّ: لم يكُن هناك إطلاق نار في ليلة «عيد الميلاد». وكان الجنود الألمان ودودين جدًّا معنا، حتى إنهم وصلوا إلى خنادقنا وقدموا لنا لفائف التبغ (السجائر) والشيكولاتة، وبالطبع قدمنا لهم أشياء في المقابل. وبعد الساعة الواحدة من صباح يوم «عيد الميلاد»، كنتُ في مهمة حراسة، وتمنى لي أحد الجنود الألمان صباحًا سعيدًا وعيد ميلاد بهيجًا. وكانت المفاجأة الكبرى التي لم أشهد لها مثيلاً في حياتي: حين حل النهار، ورأيتهم جميعًا جالسين على قمم خنادقهم، يلوِّحون بأياديهم، ويغنون لنا …”!! وكتب آخر يُدعى “بي كودار”: “كنا في الخنادق ليلة «عيد الميلاد»، وأمضَينا يومًا سعيدًا أكثر مما كنا نتوقع. كانت هناك هدنة لدفن موتانا؛ فقمنا بالصلاة عليهم عند القبور برئاسة قائدنا والقائد الألمانيّ … أعتقد أنني لن أنسى يوم «عيد الميلاد» الذي قضّيته في الخنادق أبدًا. وبعد الدفن، كنا نتحدث إلى الألمان ونحصل على هدايا تَذكارية منهم. من يستطيع أن يتخيل أننا كنا نصافح أيدي العدُو؟! أظن أنه من الصعوبة تصديق ذٰلك لٰكنها الحقيقة …”.
لقد كانت ليلة عجيبة غريبة، رأى كل جنديّ في عدُوه إنسانًا يستحق الحياة. لحظات خطها التاريخ في سجل الإنسانية المشرّف، الساعي نحو الحياة، الرافض لظلام الموت. إنها الإنسانية الأصيلة التي يحملها البشر في أعماقهم، قبل أن يفقدها بعضهم لأفكار غُرست فيهم غرسًا أو لظروف مرت بهم.
وفي الميلاد، حين نستقبل “ملك السلام والمحبة”، علينا أن نتذكر أننا ما زلنا بشرًا في عائلة إنسانية واحدة. كل عام وجميعنا بخير في “عيد الميلاد المجيد”، ومتذكرون فيه معاني “المحبة” و”السلام” حتى نحو الأعداء في كل يوم من حياتنا، و… والحديث في “مِصر الحلوة” لا ينتهي!
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ