أدت تلك الضيقة إلى خوف وجزع. أما والدة «المستنصر»، فقد رحلت عن «مِصر»، مصطحبة بناته، مغادرةً إلى «بغداد»؛ خَشية الموت جوعًا.
تحدثنا بمقالة سابقة عن الخليفة «المستنصر بالله» (487-427هـ) (1094-1036م) المتولى الحكم وهو لا يزال فى السابعة، المستمر فى الخلافة حقبة امتدت ستين سنة وأربعة أشهر، الذى خُطب له على منابر «العراق» أميرًا للمؤمنين بعد استيلاء «البساسيرىّ» عليها وخلعه الخليفة العباسىّ «القائم بأمر الله».
كما بدأنا الحديث عن الغلاء العظيم الذى حل بـ«مِصر» وأهلها حتى إن جحافل من المِصريِّين هاجروا إلى بلاد أخرى؛ ويقول «أبو المظفر»: «وعاش «المستنصر» سبعًا وستين سنة وخمسة أشهر فى الهِزاهِز (تحريك البلايا الناسَ) والشدائد والوباء والغلاء والجلاء والفتن»، ويذكر «ابن الأثير»: «فإنه مات أكثر أهل «مِصر»، وأكل بعضهم بعضًا!! وظهر على بعض الطباخين أنه ذبح عدة من الصبيان والنساء وأكل لحومهم وباعها بعد أن طبخها!! وأُكلت الدواب بأسرها…»؛ وبذٰلك لم يبقَ لحاكم «مِصر» سوى بغلته- كما ذكرنا سابقًا. وقد ذُكر أن وزير «المستنصر»، المدعو «أبا المكارم»، كان يصطحب غلامًا واحدًا، وعندما نزل عن بغلته عند القصر جاء ثلاثة أشخاص وأخذوا البغلة وذبحوها وأكلوها؛ فقُبض عليهم وأُخذوا وعُلّقوا، إلا أنه مع الصباح لم تُرَ إلا عظامهم؛ إذ أكل الناس لحومهم تلك الليلة!!.
أمّا وُجهاء الدولة، فقد صاروا يعملون بخدمة الحمامات!! حتى إن أحد الرجال دخل الحمام، فسأله الحمامىّ أن يختار من يخدُِمه من وُجهاء الدولة إذ باعوا جميع ممتلكاتهم فى الغلاء المارّ بالبلاد واعتازوا. أمّا حال «المستنصر»، فلم تكن أفضل من حال وُجهاء الدولة والشعب؛ فقد اضطُر إلى بيع جميع ما لديه بقصره، حتى إنه أخرج ثيابًا كانت لديه منذ زمن الخليفة العباسىّ «الطائع» عندما نُهبت دار الخليفة فى أيام «بهاء الدولة»، وظلت عند حكام «مِصر» محتفظين بها تعييرًا لـ«بنى العباس»، إلى جانب ما نهبه «البساسيرىّ» إبان وجوده بـ«بغداد»؛ فيذكر «ابن التَّغرىّ»: «فلما ضاق الأمر على «المستنصر»، أخرجها وباعها بأبخس ثمن لشدة الحاجة. وأخرج «المستنصر» أيضًا طَسْتًا (طِشتًا بالعامية المِصرية) وإبريقًا بِلَّورًا… فبيعا باثنى عشَر درهمًا فُلُوسًا (جمع فَلْس وهو سدس الدرهم). ثم باع «المستنصر» من هٰذا البِلَّور ثمانين ألف قطعة. وأمّا ما باع من الجواهر واليواقيت (جمع ياقوتة) والخُسْرَوانىّ (نوع من الثياب الخراسانية الشديدة الصلابة)، فشىء لا يُحصى. وأُحصِىَ من الثياب التى بيعت فى هٰذا الغلاء من قصر الخليفة ثمانون ألف ثوب، وعِشرون ألف درع، وعشرون ألف سيف مُحلَّى. وباع «المستنصر» حتى ثياب جواريه…».
أمّا أسعار الغذاء، فقد قيل إن رجلاً باع منزله الذى اشتراه بتِسع مائة دينار مقابل عشرين رطلاً من الدقيق!! وصارت البيضة بدينار، وإرْدَبّ القمح بمائة دينار حتى لم يعُد قمح بالبلاد. وذُكرت قصة عن امرأة خرجت تجوب شوارع «القاهرة» وبيدها مُدّ (ملء كفى الإنسان المادّ يديه بهما) من جواهر تملكها، وصارت تسأل عمن يأخذها ويمنحها دقيقًا فلم تجد؛ فألقتها على الأرض إذ لم تُجدِها نفعًا وقت عوزها، قائلة: ما عُدت بحاجة إليها. وقد أدت تلك الضيقة إلى خوف وجزع. أما والدة «المستنصر»، فقد رحلت عن «مِصر»، مصطحبة بناته، مغادرةً إلى «بغداد»؛ خَشية الموت جوعًا. وقد أرجع بعض المؤرخين أسباب الوقائع والخلل بـ«مِصر» إلى الفتنة التى دبت بين الأتراك والعبيد؛ فيصفها «المقريزى»: «الفتنة العظيمة التى خَرِب بسببها إقليم «مِصر» كله»؛ وقد أضحت تلك الفتنة معارك ضارية بين الطرفين انتهت بهزيمة العبيد. ويذكر «شمس الدين بن قِزأوغلِى» أن قلة مياه «النيل» قد زامنت تلك الأحداث فساءت الأمور جدًّا فى البلاد ـ كما ذكرنا… والحديث فى «مِصر الحلوة» لا ينتهى!.
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافىّ القبطىّ الأُرثوذكسىّ