بدأ حديث المقالة السابقة عن القديس المِصرىّ «أنبا أنطونيوس» أب جميع الرهبان فى العالم، وسيرته العطرة التى انتشرت فى بقاع مصر وجذبت كثيرين إلى حياة الرهبنة، مطلقة شرارة حياة الزهد والتعبد إلى العالم كله، وبالأخص بعد أن كتب البابا «أثناسيوس الرسولى» كتابه «أنبا أنطونيوس»، معللاً فيه: «لأن حياة «أنطونيوس» تستحق أن تكون مثالاً ونموذجًا للرهبان فى ممارسة التداريب الروحية»، ثم زيارات آباء كثيرين إلى «مِصر» وتسجيلهم للحياة الرهبانية بها.
لقد قدمت حياة «أنبا أنطونيوس» لنا مفهومًا حقيقيًّا معاشًا للرهبنة، مثلما ذكر مثلث الرحمات «البابا شنوده الثالث»: «الرهبنة هى حياة، وهى ليست مجرد حياة، بل هى أيضًا نمو فى هذه الحياة حتى يصل الإنسان إلى الكمال الرهبانىّ». والحياة الرهبانية بحسب ما قدمت لنا حياة «أنبا أنطونيوس» تهدُف إلى التحرر من العالم للالتصاق بالله، فى سعى نحو الكمال الروحىّ، بحياة نقية تتزين بفضيلة التواضع؛ إنها حياة ملائكية تسعى الأنفس لاقتنائها بعد جهاد طويل استعدادًا للحياة الأبدية. وفى حياة «أنبا أنطونيوس»، نرى حياة النسك والتجرد عندما قدم كل ما لديه للفقراء وسكن البرّية منفردًا من أجل التعبد الكامل لله. وفى رحلة نسكه، كانت الصلاة مجدافًا يسير به وسط لجج أيام العمر. وحين هاجمته أفكار الملل والضجر، طلب إلى الله أن يرشده؛ فرأى ملاكًا على هيئة إنسان يرتدى زيًّا – صار فيما بعد هو الزىّ الرهبانىّ. وكان «أنبا أنطونيوس» يقوم ليصلى ويعمل فى ضفر الخوص، ثم يصلى ويعمل مرة أخرى، وهكذا يكرر الأمر بعد أن سمِع ذات مرة الملاك يقول له: «اعمل هذا وأنت تستريح». وهكذا صارت حياة «أنبا أنطونيوس» صلوات متواصلة وعملا دائما.
لم يغادر «أنبا أنطونيوس» البرّية إلا مرتين: الأولى حين ذهب إلى «الإسكندرية» من أجل توقه أن ينال إكليل الاستشهاد فكان يخدُِم المسجونين ويرافق الشهداء فى محاكماتهم حتى وقت استشهادهم، ولكن الله حفِظه من أجل منفعة الآخرين؛ أما المرة الثانية فكانت وقت نزوله لمساندة البابا «أثناسيوس الرسولىّ» فى جهاده ضد تعاليم الأريوسيِّين المنحرفة عن الإيمان المَسيحىّ.
وقد ارتبط اسم «أنبا أنطونيوس» باسم كل من البابا «أثناسيوس الرسولى» (العشرين فى بطاركة الإسكندرية)، والقديس «أنبا بولا» أول السواح الذى احتفلنا بعيد نياحته قبل أيام قلائل.
«أنبا بولا»
التقى العظيمان «أنبا أنطونيوس» و«أنبا بولا»، قبيل انتقال «أنبا بولا» من العالم، ثم قام «أنبا أنطونيوس» بتكفينه ودفنه، ونقل إلينا قصة حياته وزهده وقداسته. وُلد «بولا» فى مدينة «الإسكندرية»، وحدث خلاف بينه وبين شقيقه بعد أن تُوفى والدهما بسبب الميراث؛ فقررا الاحتكام إلى القضاء. وفى أثناء توجه الشقيقين إلى القضاء، مرت بهما جنازة، وعرَف «بولا» أنها لأحد أغنياء المدينة فتوقف أمام ذٰلك المشهد، متفكرًا فى أمر ذٰلك الرجل الذى ترك العالم دون أن يحمل معه أىّ شىء؛ فتضاءلت الدنيا بفتنتها وإغراءاتها أمام عينيه، وطلب من أخيه العودة فورًا والعدول عن القضية، ثم ترك له طواعيةً جميع أمواله، وانطلق هو إلى البرّية ليحيا حياة التعبد والصلوات لله كاملاً.
انطلق «بولا» أولاً خارج المدينة ليقضى بضعة أيام فى أحد القبور إمعانًا فى إماتة رغبة العالم بقلبه، وعكف على الصلاة طالبًا إلى الله أن يرشده فى طريقه الجديد. ثم انطلق إلى البرّية الشرقية بعد أن ظهر له ملاك يرشده الطريق، وأقام بأحد الجبال فى حياة الوَحدة والتعبد ما يزيد على سبعين سنة لم يرَ فيها وجه إنسان!!. أما ملبسه فكان ثوبًا من الليف صنعه لنفسه. وكان الله يعوله فى البرّية إذ كان يأتيه كل يوم غراب حاملاً إليه نصف خبزة، إلى جانب ما كان يجده من ثمار النخيل، وبعض الأعشاب الجبلية، وكان يشرب من عين ماء تنبَُِع قرب مكان المغارة التى كان يقطنها.
وذات يوم، شعر «أنبا أنطونيوس» فى أعماقه بـ… والحديث عن «مِصر الحلوة» لا ينتهى!.
الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى