استكملت المقالة السابقة الحديث عن أب الرهبان «أنبا أنطونيوس» ولقائه أول السواح «أنبا بولا»، الذى تنيّح ودفنه «أنبا أنطونيوس»، ثم قدم لنا قصة حياته؛ وتطرق الحديث إلى تلمذة «البابا أثناسيوس الرسولى» على يد «أنبا أنطونيوس» قرابة ثلاث سنوات، ومساندة «أنبا أنطونيوس» لتلميذه فى مقاومته تعاليم آريوس المضلة.
وكان عند قرب انتقال «أنبا أنطونيوس» من العالم: أن أوصى تلاميذه أن يُخفوا جسده! وأن يقدموا عكازه إلى «أنبا مقاريوس»، ورداءه إلى «البابا أثناسيوس»، ورداءه من الغنم إلى «الأسقف سِرابيون»، فى حين ترك هو رداء الوبر لتلميذيه؛ أما ما تركه «أنبا أنطونيوس» للعالم: فقد قدم نظام الرهبنة الذى بدأه بنهاية القرن الثالث الميلادى، ليزدهر فى الرابع بمئات من الأديرة وآلاف من القلالى والكُهوف على أرض الحبيبة «مصر»! هكذا ارتبط اسم «أنبا أنطونيوس» باسم كل راهب انحلّ من العالم بحثًا عن الارتباط بالله فى أى بقعة من العالم.
واليوم، أود الحديث عن «راهب معاصر» يُعد راهبًا من القرن الرابع! راهب عرَف حياة الرهبنة الحقيقية وعاشها: فى انحلال تام من الكل وارتباط بالواحد، فى بساطة عجيبة، وحكمة فائقة منفذًا النذور الرهبانية: الفقر الاختيارى، والعفة، والطاعة؛ إنه مثلث الرحمات الراهب الإسكيمىّ «أبونا زُوسِيما آڤا مينا».
وُلد أبونا «زُوسِيما» فى 12/1/1939م فى القاهرة باسم «فكرى»، من والدين مسيحيين أرثوذكسيين، هما: الأستاذ «عبدالله» ووالدته السيدة «أليصابات». تخرج فى كلية الهندسة جامعة عين شمس 1961م، ثم التحق بالجيش عام 1968م. وقد شارك فى حرب أكتوبر المجيدة 1973م؛ كما شارك اللواء أ. ح. المهندس «باقى زكى يوسف» التفكير فى تحطيم خط بارليف مدافعًا عن وطنه مشاركًا فى انتصاراته، وكثيرًا ما تحدث عن اللواء «باقى» وكيف نجح أبناء مصر فى الدفاع عنها. ثم عمِل فى هيئة السكك الحديدية.
أحب «فكرى» حياة العزلة والوحدة واشتاق لحياة الرهبنة، فترك أسرته وعمله الناجح مهندسًا، وذهب إلى «دير الشهيد العظيم مار مينا العجائبىّ بمريوط» فى 18/7/1977م، وسُمى «الأخ أنطونيوس». وفى 24/6/1978م، سِيم راهبًا ضمن الدفعة السابعة من سيامات الدير، وكان ترتيبه بين رهبانه الخامس عشَر. ومنذ ذلك اليوم، عاش حياة رهبانية مدققة.
اتخذ لحياته الرهبانية هدفًا وخطًّا واضحًا: فنال «الإسكيم الصغير»، وأرشدت النعمة الإلهية مثلث الرحمات «البابا شنوده الثالث» فألبسه «الإسكيم الكبير» فى 9/1/2005م. فكان يتلو سفر «المزامير» كاملًا، وصلوات التسبحة، وعمل 500 ميطانية (سجدة كاملة)، والالتزام بالسكوت والصمت، وتسابيح الأنبياء وعدم أكل اللحم، فكان زاهدًا متقشفًا ناسكًا متضعًا وهرُب من نيل نعمة الكهنوت، مرددًا أنه غير مستحق لهذه النعمة. أيضًا كان ملتزمًا ومدققًا فى حياته، ناسكًا فى طعامه مقدمًا ما يأتيه منه للآخرين، وملبسه بسيط جدًّا! كما التزم بالصلوات وبالأخص «البصخة المقدسة». وقد خط قلمه كتبًا كثيرة وتأملات عديدة؛ ومن أقواله: «لا تجترّ الشرّ»؛ وكان يردد «ثمر البِرّ يُزرع فى السلام». وفى حياته رفض سماع أى أخبار عن العالم مذكرًا نفسه بأن الراهب مات عن أخبار العالم.
تعلّم أن مكائد إبليس كثيرة واستمر فى النسك والعبادة بغيرة شديدة؛ ولما كان إبليس يعجز عن خداع قلبه بالملذات الجسدية، حاول اصطياده بحروب متنوعة، فكان يُتعب جسده بكثرة، وتحمل أتعابًا كثيرة ونجح فيها كما نجح القديس «الأنبا أنطونيوس». إنه راهب من القرن الرابع نادر الوجود فى جيلنا هذا.
وقد انتقل «أبونا زوسيما» من هذا العالم بعد حياة رهبانية امتدت إلى أكثر من أربعة عُقود فى 30/1/2020م عشية الاحتفال بنياحة القديس العظيم «أنبا أنطونيوس» أب رهبان العالم أجمع. وهكذا تسير الرهبنة من جيل إلى جيل، و… والحديث فى «مِصر الحلوة» لا ينتهى!.
الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى