بدأ الحديث فى المقالة السابقة عن «البابا كيرلس السادس» الذى وصف كثيرون تقواه وورعه، وما قدمه من أعمال جليلة وخدمة مؤثرة فى حياة امتازت بالعمق والقوة؛ لقد عاش حياة ملائكية فاضت بالصلوات، فصار كما قال «داود الملك النبىّ»: «أما أنا فصلاة»؛ إنه رجل الصلاة. أيضًا اتسمت حياته منذ الصغر بالترفع عن ملذات العالم والزهد، ومحبة الوَحدة فسعى إليها فى حياة الرهبنة بـ«دير البرَموس» حيث سِيم راهبًا فى الخامس والعشرين من فبراير عام 1928م باسم «الراهب مينا البَرَموسىّ». وحين اعتلى كرسىّ البطريركية، لم تتغير حياته فى بساطتها؛ فكان راهبًا فى ملبسه ومأكله، وارتفع فوق العالم كقول القديس أغسطينوس: «جلستُ على قمة العالم حينما أحسست فى نفسى أننى لا أشتهى شيئًا ولا أخاف شيئًا.»؛ وكثيرًا ما كان يردد: «لا شىء تحت السماء يكدرنى أو يزعجنى، لأنى أحتمى فى ذلك الحصن الحصين، فى داخل الملجأ الأمين، مطمئن فى أحضان المراحم، حائز على ينبوع من التعزية».
راعٍ أمين
ملامح رعايته بدأت فى شبابه، حيث كان يشعر بعوز الآخرين وآلامهم: فيُذكر عنه أنه فى يوم «رِفاع الصوم الكبير» وجد مائدة منزله ممتلئة بأنواع من الطعام الشهىّ، وعلى الفور تذكّر إحدى العائلات الفقيرة المجاورة لمنزله، فرجا والديه تقديم طعام لها، واستجابا له. ولم يفتر عن خدمة أى محتاج يومًا؛ ففى أثناء رهبنته خرج سبعة من رهبان «دير البَرَموس»، فما كان منه إلا أن خرج معهم ليقوم على خدمتهم! ثم التقى البابا البطريرك آنذاك وأوضح له الأمر؛ فعاد الآباء إلى ديرهم. وحين عاش فى مِنطَقة «مِصر القديمة»، بنى كنيسة على اسم القديس الشهيد «مار مينا العجائبىّ»، واهتم بالطلبة وأقام لهم مسكنًا، وكان مرشدًا للشباب والخدام آنذاك، وهو من أعاد إصدار مجلة «ميناء الخلاص» للتعليم والإرشاد.
وهكذا صار «البابا كيرلس السادس» قلبًا نابضًا بالحب للجميع، مُوليًا اهتمامًا كبيرًا بكل نفس. وقد كانت رعايته واضحة للجميع؛ فيذكر عنه «البابا شنوده الثالث»: «كنا نشعر بطيبة الرجل وقلبه المحب»، كما قال عنه نيافة «المطران ساويرس حول» النائب البطريركىّ للسريان الأرثوذكس: «البابا كيرِلس» بذل نفسه بسخاء عن رعيته، بعد أن رعاها بطهر وقداسة ونقاء، وخدمها بإخلاص وجَهد فى سبيل حقها جهاد الأبطال المَيامين (المبارَكين)، ودافع عن حياتها، وصان جوهرة إيمانها. أيتها الرعية المفجوعة، لقد خبا نَجمك على الأرض ليظهر فى كبد السماء، وهو أكثر تألقًا ولمعانًا! فلا تفزعى وتقولى: إن «البابا كيرلس» قد مات، لأن الراعى الصالح لا يموت أبدًا، بل انتقاله من الموت إلى الحياة، ويبقى إلى جانبك بقداسته وفضله وحكمته وذكره العاطر الخالد…». كذٰلك عبّر نيافة المطران «بولس الأنطاكىّ» النائب البطريركىّ للروم الكاثوليك عن رعاية «البابا كيرِلس السادس»: «لقد فقدت (الكنيسة القبطية الأرثوذكسية) رئيسها وراعيها الصالح الأمين (أنبا كيرلس السادس). فقدت الكنيسة المسيحية المِصرية جمعاء قديسًا حقيقيًّا: لن ننسى أبدًا روحه الطيبة وإيمانه العظيم، لن ننسى أبدًا تقواه العظيمة وحبه العميق للصوم والصلاة، لن ننسى أبدًا سعة صدره وحنانه على الكل، وبالأخص على الصغير والفقير والضعيف… لم يطلب البطريرك الراحل مجدًا لنفسه أبدًا، بل كان مثال التواضع، لم يطلب شيئًا سوى مجد الله وثبات الكنيسة وتقديس المؤمنين. فهذه القداسة التى تحلى بها البابا هى بلا شك من الأسباب الرئيسية للنهضة الروحية الشاملة التى عرَفتها كنيسة الأقباط الأرثوذكس على عهده…». وعن محبة «البابا كيرِلس» للجميع، ذكر غبطة «الكاردينال إسطفانوس الأول» بطريرك الأقباط الكاثوليك بمِصر الأسبق: «(البابا كيرلس) رجل تقوى ومحبة وسلام… أنهك قواه باستقبال الجميع دون تفرقة، بوداعة وحكمة». لقد عاش «البابا كيرلس السادس» حياته أبًا وراعيًا: يطلب الضالّ، ويبحث عن المطرود، ويجبر الكسير، ويَعصِب الجريح، ويرعى أبناءه بعدل، مهتمًا بالجميع، حتى تنيح فى التاسع من مارس عام ١٩٧١م فى قلايته بالبطريركية بالأزبكية؛ وكانت كلماته الأخيرة من أجل رعيته: «الرب معكم. الرب يدبر أموركم.». وقد امتاز عهد «البابا كيرلس السادس» بأحداث عديدة أهمها ظهور السيدة العذراء بكنيستها بالزيتون عام 1968م، وعودة رُفات القديس «مار مرقس الرسول» لـ«مِصر» فى العام نفسه. و… والحديث فى «مِصر الحلوة» لا ينتهى!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى