«سيكون خالدًا فى نفس كل من عرَفه!»: كلمات نبعت بعفوية خالصة من فم غبطة «ثاؤفيلس الثالث» بطريرك القدس للروم الأُرثوذكس، عن شخصية مثلث الرحمات «البابا شنودة الثالث» الذى احتفلنا أمس بذكرى رحيله الثامنة؛ ولا شك، فإن شخصيته قد تركت آثارًا عميقةً لا تُمحى فى جميع النفوس التى تعاملت معه على تنوعها: قادة دول، علماء، مثقفين، شعراء، مفكرين، أدباء، سياسيِّين، قادة دينيِّين، أناس عاديين. قالت عنه «كاترين آشتون» التى كانت مسؤول السياسة الخارجية الأوروبية: «قائد محترم، صاحب رؤية، وكان يدعو إلى التسامح والحوار بين الأديان»، كما ذكر سمو «الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان» رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة: «كان مثالاً لرجل الدين الذى يؤمن بالتسامح والتعايش بين الطوائف والأديان»، فى حين وصفه معالى «استيڤن هاربر» رئيس وزراء كندا السابق: «تميز بالحنو والإنسانية تجاه مجتمعه، والآخرين من الأديان الأخرى… شخصية تعلق بها الصغار والكبار». أمّا العالم الفذ الراحل د. «أحمد زويل»، فقد قال عنه: «كان مصريًّا عظيمًا، ورمزًا فى تاريخنا الحديث». وكتب الكاتب المفكر د. «طارق حجى» عنه: «كان شخصية إنسانية نادرة؛ لا يجود الزمان بمثله إلا قليلاً».
وفى لمحات خاطفة من حياته، نجد آثار شخصية مثلث الرحمات «البابا شنودة الثالث» قد طُبعت فى كل النفوس إلى يوم انتقاله من العالم، حتى أولٰئك الذين عرَفوه منذ الصغر، فبينما كان فى الصف الرابع الابتدائىّ، اشترك فى مسابقة حفظ «سفر المزامير»، خاطفًا إعجاب المحكمين بذاكرته الفوتوغرافية عندما استطاع أن يحفظ عن ظهر قلب «المزمور التاسع عشَر» الذى يبدأ: «السمٰوات تُحدِّث بمجد الله والفَلك يخبر بعمل يديه»، مع أنه مزمور طويل قياسًا إلى سنه الصغيرة، واستحق جائزة المسابقة: «إنجيل مذهب». وطال وهَْج شخصيته حياة زملائه: فكانوا يطلبون إرشاده ورأيه فى أمورهم الخاصة، ويقص لنا «البابا شنودة الثالث» عن تلك المرحلة: «أذكر أننى، ومنذ بداية التعليم الثانوىّ، كان زملائى يستشيروننى فى حل مشكلاتهم على الرغم من أننى كنت خجولاً جدًّا منذ الطفولة.. فعلى سبيل المثال: كان أحد الطلاب فى الفرقة الرياضية فى المدرسة يقص علىّ مشكلاته الرياضية، والمشكلات التى يواجهها، وكان طالب آخر فى فرقة الحفلات يحكى لى أيضًا مشكلاته». وكانت عَلاقته بمدرسيه مميزة: ففى الصف الثانى الثانوىّ كانت تجمعه عَلاقة مودة كبيرة بمدرس اللغة العربية الذى كان أحد رؤساء نقابات العمال أيام «السلطان عباس حلمى»، وقد طلب منه أن يَنظِم نشيدًا للعمال، وبالفعل كتب قصيدة لُحنت واعتُمدت نشيدًا للعمال عام 1940م. وفى شبابه، خدم فى كثير من الكنائس والمجالات التطوعية الاجتماعية المتنوعة: كخدمته وإشرافه على الأطفال فى أحد الملاجئ؛ فتأثروا به بعد أن شعروا أن صديقًا لهم يجالسهم، لا مديرًا لمؤسستهم يسوسهم، وكان يقدم لهم المعونة فى دراستهم، والحلول لمشكلاتهم.
وقد تميز «البابا شنودة الثالث» بابتسامته وبشاشته مع الجميع، اللتين طالما كان لهما أعظم الأثر فى لقاءاته؛ إذ كان يربح محبة الكل ومودتهم بقلبه المحب المتسع ووجهه البشوش؛ فيُضفى السعادة وينشرها هنا وهناك. وأتذكر كلمات أ. د. «محمود حمدى زقزوق» الأمين العام لـ«بيت العائلة المصرية» عن الجانب المرح من شخصية «البابا شنودة»: «… شخصية مرحة ومنفتحة على الناس جميعًا؛ ومن أجل ذلك، فإنه يحظى باحترام وتقدير كبيرين لدى المِصريِّين جميعًا مسلمين وأقباطًا». وكان «البابا شنودة الثالث» دائم القول: «الإنسان البشوش يسعد الناس ببشاشته، ويشركهم معه فى فرحه، أو فى سلامه، وهم يستبشرون به؛ إذ ينقُلهم إلى مشاعر البهجة نفسها التى له… الإنسان البشوش يحب أن يكون جميع الناس بشوشين مثله. فلذٰلك هو يحاول دائمًا أن ينسيهم أحزانهم، ويشع فيهم الاطمئنان، ويبحث عن حلول لمشكلاتهم، ويعطيهم تعليلاً مريحًا لكل الضيقات، ويجلُِب البهجة لهم مهما حدث». هٰكذا كانت ابتسامة «البابا شنودة الثالث» تهب للقلوب المتعبة راحة وسلامًا، وللأنفس المتضايقة وميضًا من الأمل والرجاء، ولا عجب، فقد كان قداسته هو نفسه فى كل أمور حياته يثق دائمًا أن الله ما يزال يعمل من أجل خير خليقته معتنيًا بها، معبّرًا عن إيمانه العميق بكلماته الثلاث الخالدة: «ربنا موجود»، «كله للخير»، «مصيرها تنتهى». و… والحديث فى «مِصر الحلوة» لا ينتهى!.
الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى