تحدثنا فى المقالة السابقة عن صلابة شعب مِصر، التى لا تقهر، وكيف أن الشعب بكل فئاته لم يكِلّ، ولم يتنازل عن إيمانه، ولم يهُزه تخويف أو ترهيب أو موت، مقدِّمًا أنموذجاً لمعنى الحياة بكرامة. حتى إن العلاَّمة «تَرتِليان» ذكر عن شهداء مِصر فى ذاك العصر قائلًا: «لو أن شهداء العالم كله وُضعوا فى كِفة ميزان، وشهداء مِصر فى الكِفة الأخرى، لرجَحت كِفة المِصريين»! وقد قُدِّر عدد شهداء الأقباط بقُرابة الثمانمائة ألف شخص.
وقد ذكرنا سابقًا أن «دقلديانوس» تنازل عن الحكم تاركًا العرش لمساعده «جاليريوس» فى عام 305م، إلا أن ثمة قصة تُتَداوَل عن «دقلديانوس» ونشأته.
تقول القصة إن «دقلديانوس» نشأ فى مدينة أخميم بعد موت أبويه، وهو لا يزال طفلًا، فقام بتربيته رجل مسيحى اسمه «بِسادة»، وعمِل لديه فى رعاية الغنم. وقد حلَم «بسادة» حُلمًا أفزعه أن «دقلديانوس» سيُصبح إمبراطور روما، وأنه سيُقتل على يديه! وقد روى «بسادة» الحُلم لدقلديانوس فلم يصدق أن راعى غنم مثله سيصير إمبراطورًا، بل يقتُل من؟ الرجل الذى عاله ورباه!! وتمر خمس عشرة سنة على هذا الحُلم، وينضم «دقلديانوس» إلى الجيش الرومانى، ويصبح سائسًا للخيول فى قصر الإمبراطور، وهناك تشاهده ابنة الملك الكبرى وتحبه، وبعد موت إمبراطور روما تتولى تلك الابنة الحكم، وتتزوج «دقلديانوس»، ويصير قيصرًا على الدولة الرومانية، وفى أثناء اضطهاده المسيحيِّين، استدعى معلمه السابق، الذى صار أسقفًا على إيبارشية «إنشاى» لكى يبخر للأصنام، فلم يُطِعه، فقام «دقلديانوس» بقطع رقبة «الأسقف بسادة» بحد السيف ليموت، ويتحقق بموته الحلم!
هذه القصة منتشرة فى بعض الكتب والمواقع الإلكترونية، إلا أنه بالبحث فى كثير من المراجع العربية والأجنبية، وكتب التاريخ لم نجد أى ذكر لها، بل كما ذكرنا سابقًا أن مولده كان فى مدينة «سالونا» بولاية «دالماشيا» بإقليم «إيلليريا»، ولم تتفق المراجع على عمله سائسًا للخيل، وإن أشارت جميعها إلى انضمامه إلى صفوف الجيش الرومانى، وتدرجه فى المناصب حتى وصل إلى أن يكون قائدًا للحرس الإمبراطورى. وقد أكمل «دقلديانوس» حياته فى ممتلكاته الخاصة فى «سالونا» حتى مات، وتذكر بعض المراجع أن «دقلديانوس» أصيب بلَوثة عقلية، واعتزل الحكم، بسبب المرض، الذى لم يدَعه يأكل، أو يرتاح، بل كان يتأوَّه وينوح ويبكى دائمًا، ثم فقد بصره، وقد حُطمت تماثيله، وأُزيلت صوره إلى أن مات عام 316. (وهذا بحسب بعض المراجع الكنسية).
أمّا عن «مكسيميانوس»، شريك «دقلديانوس» فى الحكم، فقد ذكرت بعض المراجع أن دقلديانوس أجبر «مكسيميانوس» على الاعتزال معه، وترْك الحكم لمساعده «قُنسطَنطيوس»؛ وبذٰلك يكون قد حكم روما من 285 ـ 305. إلا أنه فى عام 307م طالب باستعادة العرش لمؤازرة ابنه، فقام «دقلديانوس» فى عام 308م بإقناعه مرة أخرى بالتنحى والتنازل عن العرش، وقد عاش فى البلاط الملكى للملك «قُسطَنطِين» الذى تولى الحكم بعد موت أبيه «قُنسطَنطِيوس»، وقد مات «مكسيميانوس» منتحرًا بعد أن شنق نفسه عام 310م.
أمّا «جاليريوس»، معاون «دقلديانوس» فى الشرق، فقد استمر فى اضطهاد المسيحيِّين بشدة، فكان حكمه ظالمًا بلا رحمة ولا شفقة على الرعية، حتى إنه قام بتعداد للناس وأملاكهم، ووضع الضرائب الباهظة، ولم يستثنِ أحدًا من الضرائب، حتى المواليد! وذكر أحد المؤرخين: «وكان إذا مات أحد من المسجَّلين فى سجل هذه المغارِم، أو نفَق حيوان من الحيوانات، التى عليها عوائد، وزع ما يخصه على الأحياء!.. فلم يخلُ إنسان أو حيوان من ظلمه وتعسفه»، وقد مرِض مرضًا خطيرًا كريهًا أواخر عام 310م، بعد أن ضُرب بالقروح فى كل جسمه، حيث كانت تفوح منه رائحة كريهة جدًّا ما كان أحد يستطيع الاقتراب منه بسببها؛ مما اضطره إلى إصدار مرسوم تسامح للمسيحيِّين عام 311م، وفيه يطلب التضرع إلى إلههم من أجله! ثم مات فى 311م. أمّا «قُنسطَنطِيوس» شريكه الذى كان يحكم الغرب فقد كان عادلًا، يحب رعيته، ويرفُق بهم، وظل هكذا حتى مات فى 306م، وخلفه ابنه «قُسطَنطِين».
وقد اتخذ الأقباط بداية تاريخ حكم «دقلديانوس» ليُصبح بداية لتقويمهم القبطى المسمى «تقويم الشهداء»، الذى تستخدمه الكنيسة القبطية الأُرثوذكسية فى مِصر. ففى عصر البطالمة أُجريت تغييرات على التقويم المِصرى من قِبل بطليموس الثالث فى عام 238 ق. م قام فيها بزيادة عدد أيام السنة المِصرية، إلا أن الكهنة المِصريِّين رفضوا التغييرات، ولكن فى عام 25 ق. م أعيد استعماله على يد الإمبراطور «أُغسطس قيصر»، الذى غيّر التقويم المِصرى ليتزامن والتقويم اليوليانى، الذى هو أساس التقويم الجريجورى، الذى يسير عليه الغرب. وحين أرادت الكنيسة المِصرية عمل تقويم ـ بدايةً من حكم «دقلديانوس» ـ لم تتخلَّ بل عبَّرت عن جذور مِصريتها العريقة، وأصولها الممتدة لآلاف السنين؛ فاتخذت من أسماء الشهور، التى يتألف منها التقويم المِصرى القديم أسماءً لشهور السنة القبطية.
وأسماء الشهور المِصرية القديمة هى بالهيروغليفية، ثم انتقلت إلى القبطية ـ التى هى آخر مراحل تطور اللغة المِصرية القديمة، وهى…..
تُوت (11 سبتمبر ـ 10 أكتوبر): نسبة إلى الإلٰه المِصرى «تُوت»/ «تُحُوت» إله الحكمة والعلم والكتابة.
بابَه (11 أكتوبر ـ 10 نوفمبر): وهو من «إبِتّ» اسم «الأَقصر» الأصلى، وتعود تسمية الشهر إلى عيد كان يُعيّد المِصرى القديم فيه بانتقال الإله آمون من معبده فى الكرنك إلى معبده فى الأَقصر.
هاتُور (11 نوفمبر ـ 9 ديسمبر): ويُنسب إلى «حاتحُور» إلهة الجمال والأمومة والعطاء والحب والموسيقى.
كِيَهْك (10 ديسمبر ـ 8 يناير): اسم مشتق من التعبير «كا-حِرْ-كا» أى «قرين بقرين»، ويعبِّر عن عيد اجتماع الأرواح عند الفراعنة.
طُوبَة (9 يناير ـ 7 فبراير): مشتق من الكلمة المِصرية القديمة «تاعِبْتْ» أحد الأعياد.
أَمشِير (8 فبراير ـ 9 مارس): يشير إلى عيد يرتبط بإله الزوابع «أَمشِير» عند الفراعنة.
بَرَمْهات (10 مارس ـ 8 أبريل): يُعتقد أن اسمه يعود إلى عيد يتعلق بالملك «أَمِنْحِتِب».
بَرَمُودة (9 أبريل ـ 8 مايو): نسبة إلى إله الحصاد الفِرعَونى (رَنُوده).
بَشَنْس (9 مايو ـ 7 يونيو): نسبة إلى الإله «خُونْسُو» إلٰه القمر عند الفراعنة.
بَؤونَة (8 يونيو ـ 7 يوليو): ويعود إلى احتفال المِصريِّين القدماء بعيد الوادى، الذى ينتقل فيه آمون من شرق النيل إلى غربه.
أَبِيب (8 يوليو ـ 6 أغسطس): ويعود الاسم إلى عيد الإله «أبَيب» عند الفراعنة.
مِسْرَى (7 أغسطس ـ 5 سبتمبر): ينتسب إلى العبارة «مِسُو رَعْ»؛ أى «وِلادة رَعْ».
نَسِىء (6 سبتمبر ـ 10 سبتمبر): ويسمى أيضًا الشهر الصغير، وفى أول أيامه كان يحتفل القدماء بـإله العالم الآخر «أُوزِير» (باليونانية «أُوزِيريس»). وقد وضع قدماء المِصريِّين التقويم المِصرى، الذى يُعد من أوائل التقاويم المعروفة للبشرية، الذى يُعد الأكثر دقة بالنسبة إلى المُناخ، وأمور الزراعة فى مِصر، حيث يعتمد عليه المزارع المِصرى منذ آلاف السنين فى تحديد مواسم زراعة المحاصيل، التى يقوم بزراعتها خلال العام، والتقويم المِصرى هو تقويم شمسى يقسِّم السنة إلى 13 شهرا معتمدًا على دورة الشمس.
وقد ارتبطت هذه الشهور بأمثلة شعبية ما زالت تحيا فى أذهانِ كثيرين ـ والمزارعين خاصة ـ لِما تحمله من معنًى مرتبط بالمُناخ، فمثلًا يقولون فى شهر:
تُوت: «توت رَى ولا تفوت»، أىأنّه على الفلاح أن يَروى أرضه فى مدة هذا الشهر حتى يستفيد من زراعتها.
بابَة: «خُش واقفل البوابة»، وذلك اتِّقاء البرد.
هاتُور: «هاتور أبوالدهب منثور»، والذهب يُقصد به القمح.
كِيَهك: «كيهك صباحك مساك شيل إيدك من غداك، وحُطها فى عشاك»، وهى تعنى أن النهار قصير فى حين أن الليل فى هذا الشهر طويل.
طُوبَة: «طوبة بيخلى الشابة كركوبة»، إشارة إلى شدة البرد فى هذا الشهر، الذى يجعل الشابة منحنية من قسوته مثل المرأة العجوز.
أمشير: «أمشير أبوالزعابير الكتير ياخُد العجوزة ويطير»، مذكِّرًا الناس بالرياح الشديدة فى هذا الشهر، وكثيرا ما يوصف الشخص العصبى المنفعل بأنه مثل «زعابير أمشير».
بَرَمهات: «بَرَمهات رُوح الغيط وهات»؛ والمقصود هو امتلاء الحقول بالمحاصيل الزراعية الشتوية فيه.
بَرَمُودة: «برمودة دق العامودة»، أى دق سنابل القمح بعد نضجها.
بَؤونَة: «بَؤونة نقل وتخزين المونة»، أى أنّ تخزين مؤونة العام يجرى فى هذا الشهر.
أَبِيب: «أَبِيب مَية النيل فيه تريب»، إشارة إلى الفيضان.
وعن «مصر الحلوة»، التى تحيا فى قلب أبنائها الحديث لا ينتهى..!
الأسقف العام ورئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى