بعد أن تحدثنا عن مفهوم الحرية وعَلاقتها بالبشر في المقالة السابقة، لزِم أن نوضح أن الحرية ليست شرًّا في حد ذاتها، لٰكن استخدام الإنسان للحرية هو ما يحدد تأثيرها في الإنسانية بالخير أو الشر؛ فالله ـ تبارك اسمه ـ لا يهب للإنسان إلا كل خير.
لقد جاءت الوصايا الإلٰهية حاملةً في طِياتها الحرية؛ إذ قدمت للإنسان ما يعلمه ويرشده ويحقق نفعه وسلامه، دون إجبار، فصار الإنسان حرًّا أن يطيعها أو يرفضها، وفي كلتا الحالتين هو من يتحمل تبِعات قراره. وعلى سبيل المثال لا الحصر، في أول جريمة عرَفتها البشرية، حذر الله الأخ القاتل من إتيان فعله: “لماذا اغتظتَ؟ ولماذا سقط وجهك؟ إن أحسنتَ أفلا رفْع؟ وإن لم تُحْسن فعند الباب خطية رابضة، وإليك اشتياقها وأنت تسود عليها.”، لٰكن الأخ اختار أن يطلق العِنان لمشاعر البغضة، وامتدت يداه لقتل أخيه؛ ومنذ ذٰلك الحين صار للحرية طريقان: الأول أن يطيع الإنسان بملء حريته وصايا الله مدركًا أنها من أجل نفعه، والثاني أن يمزج حريته بتلك الرغبة المميتة “تصيران مثل الله”. ولا عجب أن يحاول الإنسان التحكم في مصير إخوته من البشر، مصدرًا الأحكام دون الاعتداد بحرياتهم وقيمتهم الإنسانية؛ إنه الاستخدام السيئ للحرية الممتزج بالتطلع إلى أن يصير مثل الله!! ويا للأسف: هٰذا ما تشهِد به صفحات مشينة من تاريخ العالم حين حاول الإنسان السيطرة على أخيه الإنسان وعلى حقه في الحياة!!
يذكر المؤرخون أن “نيرون” شُهد له بالذكاء والعبقرية منذ صغره، إلا أن رغبته العارمة في السيطرة على البشر جعلت منه أحد أسوإِ الطغاة الذين عرفهم التاريخ! فقد صب كل غضبه على المَسيحيِّين واضطهدهم أبشع اضطهاد، وقتل منهم أعدادًا غفيرة في جميع أنحاء الإمبراطورية الرومانية. كذٰلك اضطهد “نيرون قيصر” “اليهود” وقتل رئيس كهنتهم، ثم أمر بقتلهم، وخرَّب “أورُشليم”؛ ثم امتد قتله إلى عائلته هو!! قتل أخاه من أبيه، ثم أمه!!! ثم زوجته الفاضلة لتعلقه بامرأة أخرى التي قتلها أيضًا فيما بعد!!فثار عليه الشعب، إلا أنه أخمد نار الفتنة وعذب وقتل من أجَّجها. ولشدة حبه لذاته، أمر أن تُصنع له التماثيل والصور، وتوضع في الميادين العامة، وعلى النقود.
ومن أصعب المذابح التي عرَفها التاريخ: المذابح الأرمينية إبان الحرب العالمية الأولى، عندما تعرض الأرمن لإبادة بشرية جماعية، بعد قتل وتشريد في أحد أضخم المجازر البشرية التاريخية مع بداية القرن العشرين. ففي ٢٤/4/١٩١٥م، أُلقي القبض على عدد كبير من المفكرين والشخصيات البارزة وأعيان الأرمن ورجال الدين وأُعدموا في ساحات المدينة؛ تلا ذٰلك عمليات إجلاء للأرمن من مدنهم وقراهم في “رحلات الموت”؛ ليقدر الباحثون أعداد ضحاياهم ما بين المليون إلى المليون ونصف المليون نسَمة!!!
هٰذا إلى جانب أشهر قضايا المذابح المعروفة بـ”هولوكست”: التي هي نتاج الفكر النازيّ: الذي كان يسعى للسيطرة على العالم وحكمه،بإيجاد حزب يتوحد فيه “الألمان” للعمل على استعادة ما فقدوه في الحرب العالمية الأولى، وتحقيق حُلم امتلاك إمبراطورية كبيرة في “أوروبا الشرقية”. سعى النازيُّون لتدمير كل ما يخالف معتقداتهم: فطردوا “اليهود” من المؤسسات الثقافية، وأشعلوا النيران في أعمال كبار الأدباء الألمان في احتفال أُطلق عليه اسم “احتفال حرق الكتب”؛ ثم بدأ الاتجاه إلى غزو الدُّول المجاورة: فجاء غزو “بولندا”، ثم “النُّرويج” و”الدِّنمارك”، ثم “هولندا” و”بلچيكا” و”لكسمبورج”، ثم “الإتحاد السوڤيتيّ”؛ لتندلع الحرب العالمية الثانية التي تجاوز عدد ضحاياها في العالم من العسكريِّين والمدنيِّين 62 مليون نسمة (نصفهم من المدنيِّين!!)، إلى جانب عشرات من ملايين جرحى ومشوهين!!!
لم تعُد تلك المذابح والحروب هي أسلوب التعبير عن الحرية الخاطئة التي تسعى نحو الهيمنة على حياة البشر، بل اتخذت نهجًا جديدًا معاصرًا: فسعى الإنسان إلى امتلاك المعرفة والتقنيات الحديثة التي تسمح له بجمع البيانات والمعلومات عن كل فرد؛ فيحقق تلك الرغبة الكامنة المتأججة: “تصيران مثل الله”!!! ومنها التي تحقق له السيطرة على فكر البشر ومعتقداتهم وانتماءاتهم. ومن تلك الأمور … و… وفي “مِصر الحلوة” الحديث لا ينتهي!
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ