تحدثنا في المقالة السابقة عن إفساد الإنسان لمعنى “الحرية” عندما مزجها برغبته المميتة في أن “يصير مثل الله”؛ فكان سعيه ومحاولاته للسيطرة على البشر وعلى حقهم في الحياة، وعرضنا لأمثلة من ذاكرة التاريخ ومن صفحاتها المشينة: الطاغية “نيرون”، والمذابح الأرمينية، ومذابح “الهولوكست”، والحروب العالمية التي فُقدت فيها ملايين من البشر الأبرياء.
إلا أن تلك الصور الوحشية لم تعُد الآن هي الأسلوب الذي يُتخذ من أجل الهيمنة على حياة البشر وانتزاع حقوقهم في الحياة، أو نزع آدميتهم و”تشييئهم” (تحويلهم إلى أشياء بلا إرادة). فقد اتُّخذ نهج جديد معاصر يسعى لامتلاك المعرفة والتقنيات الحديثة التي تسمح للحالم بالسيطرة بجمع البيانات والمعلومات عن كل فرد على وجه المسكونة؛ وهٰكذا يظن أنه قد صار مثل الله!!! وعن ذٰلك عبّر الفيلسوف الألمانيّ “مارتن هيدجر” (1889-1976) الذي عاصر ويلات الحروب؛ فصرح بقلقه العميق من مستقبل الإنسانية بما شاهده من دمار وقتل، محذرًا البشر من أخطار التطور التقنيّ مشددًا على وجوب تقنينه، مناديًا بوضع دستور يحكم عَلاقة الإنسان بالتطور التكنولوجي.
أما عن محاولات انتزاع حق الحياة من البشر، فتعبّر عنه تقنيات مختبرات الحرب الحيوية التي توصلت إلى إمكانية وضع مواد في اللقاحات، قد تسبب: القتل البطيء، أو إصابة الأشخاص والأجيال التالية بمرض ما، أو إضعاف قدرة المخ، أو العقم، أو إضعاف المناعة البشرية؛ بهدف السيطرة على عدد سكان الأرض. إن فريقًا من البشر يؤمنون أنه يجب إحداث تباطؤ في نمو السكان العالميّ، متعللين بأنه كلما كان البشر أقل عددًا كانت حياتهم أطول عمرًا وأفضل حالاً، خاصة في ظل الموارد المحدودة للأرض، ولذا يجب خفض عدد سكانها!! حتى وإن تحقق ذٰلك بالتطهير العرقيّ لبعض المجتمعات التي تدرج تحت مسمى “العالم الثالث”، أو بالبقاء للأقوى عن طريق التخلص من الضعفاء الذين يُعتبرون حملاً مضنيًا على إمكانات الدُّول!!! ويرَون أنه لن يتأتى ذٰلك إلا من بالبحث والتطوير في العلوم الحيوية التي تؤثر في حياة الإنسان.
لقد ذكر عديد من الكتاب والدارسين مدى التطور السريع لأبحاث “علم الچينوم” ـ أحد فروع علم الوراثة المتعلق بدراسة “الچينوم” أي كامل المادة الوراثية داخل مختلف الكائنات الحية؛ بهدف تحديد تسلسل الحمض النوويّ (DNA) كاملاً، ورسم الخرائط الدقيقة “للچينوم”؛ ومن ثَم تحقيق تغيير في “DNA” الكائنات الحية بشرًا أو حيوانات أو نباتات.
وفي كتابه “ساعتنا الأخيرة”، الصادر عام 2003م، حذر عالم الفيزياء والكونيات البريطانيّ “مارتن رِيس” من التطور السريع والمذهل للتقنيات الحيوية التي ربما ينتج عنها وباء قد يؤدي إلى كارثة. ويرى “رِيس” أن الڤيروسات المميتة والمعدلة وراثيًّا هي أحد أشد الأخطار التي تهدد البشرية؛ إذ من الممكن وقوع انفلات في أجهزة صنعها الإنسان، أو في أثناء استخدام الهندسة الوراثية لتغيير طبيعة البشر. وحدد “رِيس” 2020م أنه العام الذي سيحدث فيه خطأ بيولوچيّ يتسبب في مقتل مليون شخص!! ذاكرًا أن كل هٰذا بتدبير من أشرار “إرهاب بيولوچيّ”، في تحالف بين العلماء والسياسيِّين، أو نتيجة خطإ بشريّ، وأن تخليق الڤيروسات والبكتيريا القاتلة سيكون أمرًا متاحًا بين عدد كبير من البشر قد يكونون من الأشرار الفاسدين؛ فتُستخدم تلك المعرفة على نحو غير سليم؛ وهٰذا بدوره يؤول إلى إحداث كوارث في حياة البشر سببها سوء استعمال الكمياء الحيوية.
أما الجانب الآخر من المعرفة القاتلة، فهو السعي نحو السيطرة على فكر البشر ومعتقداتهم وانتماءاتهم وسلوكهم، وذٰلك من خلال … وفي “مِصر الحلوة” الحديث لا ينتهي!
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ