بدأ حديثنا بالمقالة السابقة عن محاولات تطور الاتصال بين البشر وكيفيته؛ وقد أعقبها تطور أخذ منحًى جديدًا: إذ بدء الإنسان محاولات لاختراع جهاز يؤدي بعض عمليات العقل البشريّ الحسابية والمنطقية. ويذكر بعض الدارسين أن بداية ظهور الحاسوب الآليّ تعود للقرن الثامن عشَر، عندما صنع التاجر الناسج الفرنسيّ “چوزيف ماري چاكار” (1752-1834) أقدم “منسج مبرمج” لغزل الملابس: “منسج چاكار”، الذي كان له دور مهم في تطوير الآلات القابلة للبرمجة كالحاسوب الآليّ.
وقد شهِد العالم بعد ذٰلك تطورًا جديدًا مع العالم الرياضيّ الفيلسوف مهندس الميكانيكيا البريطانيّ “تشارلز بابيچ” (1871-1791م)، مخترع الحاسوب الميكانيكيّ، الذي صمم أول حاسبة في العالم عام 1822م وأطلق عليها “ماكينة الفروق Difference Engine”، التي لها نسخة مطابقة بـ”مُتحف لندن للعلوم”، لٰكنها لم تُستخدم، بل كانت فكرة عملها أساسًا لاختراع الحاسوب؛ كانت العمليات الحسابية آنذاك تُجرى في جداول حسابية كبيرة، يُعِدها مختصون لأجل مساعدة الناس في إجراء العمليات الحسابية المعقدة. وكان “بابيچ” يرى أن من يُعدون تلك الجداول هم بشر معرضون للخطإ، وأن الآلة يمكن أن تكون دقيقة إذا تمكن من جعلها القيام بالعمليات الحسابية. وهٰكذا بدأ رحلته، فقضّى قرابة عشْر سنوات في بناء آلته التي أطلق عليها اسم “الآلة الحسابية 1″، لٰكنه لم يتوصل لأن تعمل. قرر “بابيچ” بناء آلة جديدة أفضل من الحاسبة ليبتكر مفهوم أول حاسوب آليّ قابل للبرمجة: أطلق عليه “الآلة التحليلية”، وكانت متعددة الوظائف وتشبه الحاسوب الآليّ في الاستخدام؛ فوضع تصميمات “الآلة الحسابية 2″، لٰكن العمل لم يتم لعدم وجود التمويلات اللازمة. وقد صنع فريق من “مُتحف لندن للعلوم” نسخة مطابقة لتصميمات “بابيچ”، ونجحوا في تشغيلها عام 1991م في احتفال بمرور قرنين على مولده.
ظهر الجيل الأول من الحواسيب الآلية منتصف القرن الماضي (1954-1942م)، التي اتسمت باستخدام الأنابيب المفرغة مكونًا أساسيًّا، وقلة الكفاءة، ودعم “لغة الآلة Machine Language” فقط، والتكلفة الباهظة، وتوليد حرارة عالية، واستهلاك كبير للكهرباء، والبطء، وثقل الوزن وكبر الحجم. ويُعد حاسوب مكتب التعداد في “الولايات المتحدة الأمريكية” أول حاسوب تِجاريّ. وأحد نماذج ذٰلك الجيل جهاز “IBM-701”.
أما الجيل الثاني (1952-1964)، فقد شهِد تطورًا كبيرًا أدى إلى ثورة في بناء الحواسيب باستخدام “الترانزستور”؛ فاتسمت أجهزته بأنها أكثر كفاءة من أجهزة الجيل الأو،: وتولد حرارة أقل، وطاقة كهربية أقل، وتدعم لغة الآلة و”لغات التجميع Assembly language”، وتستخدم بعض لغات البرمجة العالية المستوى، وقل وزنها وحجمها، وتضاعفت سرعتها، لٰكن بقيَت عالية التكلفة. وكان أحد نماذج ذٰلك الجيل جهاز “IBM 1620”.
ثم جاء الجيل الثالث (1964-1972م) الذي تميز باستخدام الدوائر المتكاملة “Integrated Circuits” التي اخترعها المهندس الكهربائيّ الأمريكيّ “چاك كيلبي” 1958م، وبتوليد حرارة أقل، وقل حجم الحاسوب وازدادت كفاءته وسرعته في العمليات المطلوبة، باستهلاك كهرباء أقل، ودعم لغة برمجة عالية المستوى، واحتاج الحاسوب تكييف هواء، واستعمل المعالجة عن بعد، نظام تشغيل متعدد البرمجة، لٰكنه ظل مكلفًا. وتُعد سلسلة “IBM-360” أحد نماذج ذٰلك الجيل.
الجيل الرابع 1972-1990م، ويتميز باستخدام الدوائر المتكاملة ذات المقياس الكبير[(VLSI) Very Large Scale Integrated Circuits]، ما أعطى إمكانية الحصول على حواسيب صغيرة الحجم خفيفة الوزن أمكن التنقل بها، مع زيادة مذهلة في السرعة، وبأسعار معقولة! فانتشرت الحواسيب الشخصية. وقد أضيف إلى أجهزة ذٰلك الجيل عن سابقه تقديم مفهوم استخدام شبكات “الإنترنت” ونظام التشغيل الموزع، ودعم جميع اللغات العالية المستوى، وقاعدة البيانات (Database)، والبرمجيات المجهَّزة، واستعمال الصوت والصورة واللغات الإنسانية، وتطور كبير بمجال الشبكات، وصارت الأجهزة متاحة بيسر. وأحد نماذج ذٰلك الجيل جهاز “Star 1000”.
أما الجيل الخامس (1990-الآن)، فقد استخدم تقنية (ULSI) اختصارًا للتعبير “Ultra Large Scale Integration”، معتمدًا على أجهزة المعالجة الدقيقة، و”خصائص الذكاء الاصطناعيّ” (أحد أفرع علوم الحواسيب الآلية الناشئة ويفسر كيف صارت الأجهزة تفكر كالبشر)، واستخدام جميع مستويات لغات البرمجة العليا. ويتضمن ذٰلك الجيل أجهزة “الروبوت” والألعاب، مع تطوير أنظمة متخصصة لاتخاذ القرارات في مواقف الحياة الفعلية، وأيضًا فَهم اللغات الطبيعية وتوليدها. ومن نماذج هٰذا الجيل الحاسوب المحمول.
وخلال هٰذه الرحلة من تطور الحواسيب الآلية، ظهرت الهواتف المحمولة، وشبكات “الإنترنت”، وبلغ البشر تقنيات عالية في الاتصالات، و … وفي “مِصر الحلوة” الحديث لا ينتهي!
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ