تحدثنا عن “الموت الأسود” أو “الطاعون الدُّبْليّ”، الذي اجتاح العالم وقضى على حياة ملايين من البشر على مر العصور والأزمان، في لمحة سريعة مما ذكره الكُتاب والمؤرخون في عصور مختلفة وبلدان عدة شهدت تفشي ذٰلك الوباء.
وقد شهد العالم وباءً آخر يًعد من أشد الأوبئة فتكًا إذ تسبب في موت ملايين: وهو مرض “الجُدري”، الذي بات أحد الأمراض الڤيروسية الشديدة العدوى.
“الجُدري” Smallpox
لا يُعرف بالتحديد موعد ظهور مرض “الجدري” أو مكانه، إلا أن دراسة المومياوات المِصرية القديمة أثبت انتشاره بـ”مِصر” في القرن الثالث الميلاديّ. وقد عرفت الإمبراطورية الرومانية أعوام 165-180م المرض نفسه باسم “طاعون أنطونين”، حيث انتشر عن طريق جنودها العائدين من حملات الشرق الأدنى. وقد تسبب المرض في موت كل من: الإمبراطور “لوسيوس ڤِيروس”، والإمبراطور “ماركوس أوريليوس أنطونينوس”. ويذكر مؤرخو تلك الحقبة أن المرض كان يودي بحياة 2000 شخص يوميًّا، وقُدرت أعداد الذين ماتوا بذلك الوباء خمسة ملايين شخص!!
ومع بداية القرن السادس عشَر، انتشر “الجدري” أيَصا في الأمريكتين من الأوروبيِّين النازحين إلى الأرض الجديدة، حاصدًا أرواح ما بين 90-95% من سكان الأرض الأصليِّين!! فقد انتشر بـ”المكسيك” (1520م)، و”بيرو” (1530-1527م)، و”البرازيل” (1555م)، و”تشيلي” (1563-1561م)، و”الولايات المتحدة الأمريكية” والتي عرفت في ذلك الوقت باسم “المستعمرات الثلاثة عشْرة” في أعوام: (1619-1617م) بخليج “ماسَتشُوسِتس”، ليعود مرة أخرى للظهور الأعوام: 1633م بـ”بليموث”، و1634م بمِنطَقة “نهر كونيتيكِت”، و1721-1722م بـ”بوسطن”، و1738م بـ”كارولَينا الجنوبية”، و1837-1838م بمِنطَقة “السهول الكبرى” التي تشتمل على عدد من الولايات الأمريكية، وبعض المقاطعات الكندية. أما مقاطعة “أونتاريو” بكندا، فقد تفشى بها وباء “الجدري” عام 1630م.
وتفشى المرض مرة ثانية في القرن الثامن عشَر بـ”أوروبا”، مخلفًا قتلى قدرت أعدادهم بـ000‚400 سنويًّا، كما فقد ثلث المصابين تقريبًا أبصارهم. وفي القرن التاسع عشَر، تفشى وباء “الجُدري” في “جنوب أفريقيا” عام (1840م)، وبولاية “ڤيكتوريا” بأستراليا عام (1857م)، وبألمانيا أعوام (1870-1871م)، وبمونتريال عام (1885م)؛ وشهِد القرن العشرين تفشيه من جديد في “يوغوسلافيا” عام (1972م)، وبالهند أعوام (1981-1974م).
و”الجدري” نوعان: “الجدري الصغير”، و”الجُدرِي الكبير” وهو الأشد والأكثر شيوعًا. عند الاصابة بالوباء يمر المصاب بعدد من المراحل تصحاب تطور هٰذا المرض: فتبدأ أعراضه بسخونة شديدة تصل إلى درجة الحمى، يصاحبها قيء، ثم ظهور تقرحات عند الفم، وطفح جلديّ يؤول إلى بثور ممتلئة بالسوائل، ثم تنتشر هذه البثور في جسم المريض لتكوّن قشورًا، تسقط مخلفة ندبات مكانها. وتنتقل العدوى بڤيروس “الجدري” من شخص إلى آخر بالاتصال المباشر الطويل بالمريض، إلى جانب استخدام أدوات المصاب كالفراش والملابس. ويُعد “الجُدري” من الأوبئة المميتة، حيث تحدث الوفاة على الأغلب بين يوم العاشر والسادس عشَر من الإصابة، إلا أن سبب الوفاة ليس واضحًا. وقد يؤدي المرض إلى فقدان الإنسان بصره، مثلما حدث مع الشاعر “أبو العلاء المعري” (449هـ/1058م)، الذي ذهب بصره جراء إصابته بهٰذا المرض وهو كان ما يزال في سن صغيرة جدًّا.
وفي العِقد الأخير من القرن الثامن عشَر، اكتشف الطبيب الإنجليزيّ “إدوارد چنر” (Edward Jenner)، عن طريق الملاحظة والدراسة، أن الإصابة بڤيروس آخر يصيب البقر، عُرف باسم “جُدري البقر”، من الممكن أن تقي البشر من الإصابة بوباء “الجُدري”!! فتوصل من “جدري البقر” إلى عمل لقاح ضد مرض “الجدري”، ثم طوّره إلى لقاح آخر، أعقبه بحملة تطعيم واسعة. وقد أعلنت “منظمة الصحة العالمية” استئصال “الجدري” من العالم في ثمانينيات القرن الماضي، و … وفي “مِصر الحلوة” الحديث لا ينتهي!
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ