بدأ حديث المقالة السابقة “السماء الثانية” عن قصة “عيد السيدة العذراء”، وحياتها الممتلئة صعابًا وضيقات، وقُدمت قراءة سريعة لأيقونة “السيدة العذراء”. واليوم، يُستكمل الحديث في بعض ومضات من حياة “السيدة العذراء”.
اتسمت “السيدة العذراء” بالطاعة الكاملة منذ أن كانت طفلة صغيرة؛ فقد أطاعت عندما قدمتها أمها، وهي في سن الثالثة، إلى الهيكل لتقضّي فيه حياتها؛ إذ كانت نذرًا لله: فقد صلّت والدتها “حَنَّة” إلى الله متضرعةً أن يهب لها نسلاً، ناذرةً تقديم الطفل إلى الهيكل المقدس. وبعد أن صار الهيكل منزلاً لتلك الطفلة التي سَُِرعان ما حُرمت من والديها، طُلب منها أن تتركه وهي في الثانية عشْرة، فاختير لها شيخ تُخطب له ليرعاها، وأطاعت مرةً ثانية وتركت الهيكل إلى منزل “يوسف النجار” ليهتم بشُؤونها. واختيار “يوسف النجار” له قصة: بحث الكهنة عن رجل بارّ ليُوْدعوه “السيدة العذراء”، فوقع الاختيار على اثنَي عشَر رجلاً من رجال سبط “يهوذا” الأتقياء، وإذ أراد الكهنة أن يُعلن الله لهم من هو المستحق لرعايتها، أخذوا عِصِيهم ووضعوها في الهيكل، فأتت حمامة واستقرت على عصا الشيخ الوقور “يوسف النجار”؛ فأدرك كهنة الهيكل أن تلك العلامة هي من الله، فقد كان “يوسف النجار” رجلاً بارًّا؛ فشهِد له “الكتاب”: “فيوسف رجلها إذ كان بارًّا …”؛ وهٰكذا أطاعت “السيدة العذراء” وانتقلت من الهيكل إلى بيته، وظلت فيه حتى بشرها ملاك الرب بولادة السيد المسيح.
أيضًا أطاعت “السيدة العذراء” عندما جاءها ملاك الرب يبشرها بولادة السيد المسيح قائلاً: “مبارَكة أنت في النساء … لا تخافي يا مريم لأنك قد وجدت نعمة عند الله. وها أنت ستحبلين وتلدين ابنًا وتسمينه يسوع. هٰذا يكون عظيمًا وابن العَلِيّ يُدعى …”؛ وفي طاعة وتسليم كاملين أجابته “السيدة العذراء”: “هوذا أنا أمَة الرب. ليكُن لي كقولك.”. وهٰكذا باتت “السيدة العذراء” مثالاً لحياة الطاعة إذ وضعت جميع أمور حياتها بين يدي الله في تواضع عجيب؛ فرفعها الله إلى مرتبة فائقة لم ينَلها أحد. لذٰلك تحتفل الكنيسة بعدة تَذكارات لها: ميلادها (غُرة بشنس)، دخولها الهيكل (الثالث من كيهك)، نياحتها (الحادي والعشرين من طوبة)، صعود جسدها إلى السماء (السادس عشَر من مسرى)، بناء أول كنيسة على اسمها (الحادي والعشرين من بؤونة)، تكريس كنيسة على اسمها بـ”دير المُحرَّق” (السادس من هاتور) حيث أقامت هناك ما يزيد على ستة أشهر ، وأيضًا تَذكار تجليها على قباب كنيستها بـ”الزيتون” (الرابع والعشرين من برمهات) إلى أكثر من عامين!
إن الطاعة التي سلكت فيها “السيدة العذراء” ما هي إلا نتاج حياة طويلة من الاتضاع والتسليم امتدت فيها نحو ستين سنة: اثنتَي عشرة سنة بالهيكل، قرابة ثلاثين سنة ببيت خطيبها “يوسف البار”، أربع عشْرة سنة بمنزل “يوحنا الإنجيليّ” تلميذ السيد المسيح الذي أوصاه وعهد إليه بها حين قال “للسيدة العذراء” وهو على الصليب: “هوذا ابنكِ”، ثم قال لـ”يوحنا”: “هوذا أمكِ”؛ ومن تلك الساعة رجع بها “يوحنا” إلى منزله. إن عبير التواضع لتشتمته الأجيال طوال الأزمان في حياة “السيدة العذراء” التي امتلأت بالنعم، والتي استحقت التطويب كما ورد بأنشودتها: “تعظِّم نفسي الرب، وتبتهج روحي بالله مخلِّصي، لأنه نظر إلى اتضاع أمَته. فهوذا منذ الآن جميع الأجيال تطوبني، لأن القدير صنع بي عظائم، واسمه قدوس، ورحمته إلى جيل الأجيال للذين يتقونه. صنع قوة بذراعه. شتَّت المستكبرين بفكر قلوبهم. أنزل الأعزاء عن الكراسيّ ورفع المتضعين. أشبَعَ الجياع خيرات وصَرَف الأغنياء فارغين.”.و … وفي “مِصر الحلوة” الحديث لا ينتهي!
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ