قدمت المقالة السابقة «جرس إنذار» إلى العالم كله؛ من أجل توخى الحذر فى كل ما يقدَّم الآن من أجل خدمة الإنسان ورقيّه؛ خَشية أن يَضحَى وسيلة لتُفقد الإنسان آدميته وبشريته التى خلقه الله عليها. وإننا اليوم، أكثر من أى وقت مضى، لفى أمسّ الحاجة إلى التمسك بالله سبيل النجاة الوحيد، والثقة بقدرته فى تدبير جميع الأمور لخير البشر، وإلى اقتناء الحكمة التى تميز بين الشر، وشبه الشر، والخير، وسط جميع الاضطرابات التى نشهدها فى العالم.
يقدم لنا «الكِتاب» فى سفر الرؤيا، التى رآها التلميذ «يوحنا الرسول» عما تحمله الأيام الأخيرة من سمات: هى فى طياتها تحذيرات إلى العالم، وفى الوقت نفسه إعلانات بشأن حماية الله لعبيده الأمناء الملتجئين إليه بكل قلوبهم. لذٰلك فالتمسك بالله فى جميع الأوقات والمواقف هو السبيل لينال الإنسان السلام الذى يحتاجه فى خضم اضطرابات هٰذا العالم؛ إذ يُطمئن «الكتاب»: «سَلَامًا أَتْرُكُ لَكُمْ. سَلَامِى أُعْطِيكُمْ. لَيْسَ كَمَا يُعْطِى الْعَالَمُ أُعْطِيكُمْ أَنَا. لَا تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ وَلَا تَرْهَبْ». وفى القرآن، للسلام قيمة عظيمة؛ إذ هو اسم من أسماء الله: (الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ). فما أسعد ذٰلك الإنسان الذى يجد سلامه فى الله وقت المحن والتجارِب والضيقات!، ودائمًا ما أذكر قصة ذٰلك الرسام الذى عبّر عن معنى السلام: رسم عصفورًا صغيرًا، يرقد فى هدوء وسلام بإحدى فتحات الصخور، فى حين الأمواج من حوله تتلاطم فى صخب وعنف!، هٰكذا كل من وضع اتكاله فى الله: يعيش فى هدوء وسلام، واثقًا بمن وضع رجاءه فيه.
أمّا من يُنكرون وجود الله وعمله وجميع ما هو روحىّ، فما هم إلا مختلقو تبرير يقدمونه لأنفسهم كى يُقْدموا على فعل ما يرغبون، تحت مظلة من مسميات رنانة تحمل فى ظاهرها معانى الإنسانية، وباطنها يبعد كل البعد عنها. يذكر بعض علماء النفس عن نظرية «تبرير الإنسان لذاته»: أن بينما يؤدى الإنسان أفعالاً ما، يبررها لذاته كى يستمر فيها. إلا أن افتقاد الله للبشر لا يتوقف أبدًا حتى نهاية العالم؛ فالأمر لا يحتاج إلا صدقًا مع النفس، وخطوة نحو الطريق الصحيح.
ويصحب الاتكال على الله، لا التواكل، سعى الإنسان لاقتناء الحكمة فى مسيرة الحياة؛ فالحكمة فضيلة سعى لها كثير من البشر، وتحدث عنها الفلاسفة عبر العصور؛ إذ هى من أهم أسس الحياة، ودرع أمان وحماية للإنسان فى طريقه؛ وقد ذكر عنها الحكيم أنها «خَيْرٌ مِنَ اللَّآلِئِ، وَكُلُّ الْجَوَاهِرِ لَا تُسَاوِيهَا». ويذكر القرآن: (وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا). أمّا مصدر الحكمة الحقيقى فهو الله واهبها للإنسان، إذ يقول «الكتاب»: «لِأَنَّ الرَّبَّ يُعْطِى حِكْمَةً. مِنْ فَمِهِ الْمَعْرِفَةُ وَالْفَهْمُ». وفى القرآن: (يُؤْتِى الْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ). ولٰكن على الإنسان أن يدرك أية حكمة يبحث عن اقتنائها، فـ«الكتاب» يذكر أنه توجد حكمة أرضية: «أَرْضِيَّةٌ نَفْسَانِيَّةٌ شَيْطَانِيَّةٌ. لِأَنَّهُ حَيْثُ الْغَيْرَةُ وَالتَّحَزُّبُ، هُنَاكَ التَّشْوِيشُ وَكُلُّ أَمْرٍ رَدِىءٍ.»، وأخرى سماوية: «وَأَمَّا الْحِكْمَةُ الَّتِى مِنْ فَوْقُ فَهِى أَوَّلًا طَاهِرَةٌ، ثُمَّ مُسَالِمَةٌ، مُتَرَفِّقَةٌ، مُذْعِنَةٌ، مَمْلُوَّةٌ رَحْمَةً وَأَثْمَارًا صَالِحَةً، عَدِيمَةُ الرَّيْبِ وَالرِّيَاءِ». وفى القرآن: (سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِنْدَ اللهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ)؛ الحكمة الأرضية تقترب إلى الدهاء (الذكاء الشرير) الذى نتائجه تَبهَر الإنسان وتُغريه أن يقدم الشر لغيره على أنه الخير وأفضل ما يمكن أن تكون عليه الأمور، لٰكنها لا تؤدى إلا إلى الضرر فى النهاية. إن التمسك بالله والثقة به مع الحكمة، هٰذه الثلاثة، هى سبيل النجاة. و… وفى «مِصر الحلوة» الحديث لا ينتهى!.
الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى