احتفل أقباط “مِصر”، قبل أيام قلائل، بتَذكار نياحة “القديس أنبا رُوِيس”، الذي شُيدت على أرض ديره (المسمى قديمًا “دير الخندق” ثم أطلق عليها اسمه: “مِنطَقة الأنبا رُوِيس”) “الكاتدرائية المَرقسية الكبرى”، إبان عهد “القديس البابا كيرِلس السادس” الـ116 في بطاركة الإسكندرية. وحياة “القديس أنبا رُوِيس” نموذج للحياة التي يمكن أن تصل درجات روحية مرتفعة، وهي زاهدة وسط العالم. وكما ذكر مثلث الرحمات “البابا شنوده الثالث”، فإن “القديس أنبا رُوِيس”: “لم ينَل درجة كهنوتية، ولا سلك في الحياة الديرية راهبًا، لٰكنه فاق كثيرين من أصحاب الرتب والدرجات الكنسية، وصار الباباوات يطلبون صلواته عنهم.”. إن “أنبا رُوِيس” علامة منيرة في تاريخ الكنيسة القبطية في القرن الرابع عشَر الميلادي. كان عصره صعبًا قاسيًا بـ”الكنيسة القبطية” حيث تعرض الأقباط لاضطهادات عظيمة، ولتهديم كنائس وأديرة كثيرة حتى ذكر “المقريزي”: “وكانت هٰذه الخُطوب في مدة يسيرة قلما يقع مثلها فى الأزمان المتطاولة!! هلك فيها من الأنفس، وتلف فيها من الأموال، وخرب من الأماكن، ما لا يمكن وصفه!! ولله عاقبة الأمور.”، مع تأثر البلاد بانتشار وباء شديد فتك بها، ومجاعة، وموجة غلاء حلت بالمسكونة.
عُرف “أنبا رُوِيس” بأسماء عدة: “فريج”، “رُوِيس”، “تيچي”؛ وإن كان تاريخ ميلاده غير معلوم بدقة فإنه يرجِع إلى عام 1334م. وُلد “أنبا رُوِيس” بعزبة “منية يمين” بالغربية، من أسرة فقيرة، لأب يُدعى إسحاق يعمل بالفلاحة، وأم اسمها “سارة”، وحين أنجباه أسمياه: “فريج”. كان الطفل “فريج” يساعد والده في الفلاحة، ثم يجول مع جمله الصغير “رُوِيس” ليبيع المِلح (رُوِيس: أصلها “رُؤَيس” تصغير “رأس”)، وكان جملاً أليفًا يلبي حين يدعوه باسمه.
اتسم “فريج” بالأمانة الشديدة، حتى إن كثيرين كانوا لا يبتاعون الملح إلا منه! وتواضعه ومحبته ومساعدته للجميع نالت محبة كل من عامله من أهل القرية، فذاع صيته فيها وفيما جاورها من مناطق. ترك “فريج” منزل والده وهو في العشرين بسبب تشتت العائلة من الاضطهاد؛ وعاش في “برّية الشيخ” قرب قريته، ثم توجه إلى الصَّعيد، وغيّر اسمه إلى “رُوِيس”، وعاش غريبًا، في شوق دائم إلى السماء.
عاش “أنبا رُوِيس” حياة النسك، غير مهتم بالملبس، ناكرًا ذاته، كثير الصوم؛ فكان لا يتناول الطعام إلا كل يومين أو ثلاثة! وذات مرة صام أحد عشَر يومًا متتالية!! وكان دائم الصلاة، مواظبًا على حضور الكنيسة. طاف بلاد القطر المِصريّ، يعمل بيديه لأجل الحصول على قوته اليوميّ، يسُدّ بقليله رمقه، ويتصدق بمعظمه على المُعْوَزين والمحتاجين، وقد نال محبة كل من التقاه، فكانت العطايا تقدَّم له من مال وثياب لٰكنه لم يقبلها تقشفًا وزهدًا، ناظرًا في مقتنيات العالم كمعطِّلات للإنسان عن خلاص نفسه.
استقر “أنبا رُوِيس” في “القاهرة”، منفردًا في منزل لخلوة الصلاة والتضرع إلى الله، ثم آوى إلى مكان بسيط من الخوص، أو كان ينام على قارعة الطريق ما عرضه لإهانات كثيرة واعتداءات بالضرب والسب وغيرها!!! كان يحبس نفسه في أماكان بعيدة معتزلاً الناس من شدة ما كان يتعرض له من آلام، في صلوات وأصوام، ومتى جاع يأكل خبزًا يسيرًا يسند به جسده. وقد ذاعت شهرة “أنبا رُوِيس” جدًّا حتى إن السلطان “برقوق” رغِب رؤيته. وذات مرة، قاده الغوغاء إلى “الأمير سُودون” الذي أمر بضربه والطواف به في الشارع، ثم حبسه مع تلميذه!! وكان بالسجن أسرى مَسيحيون، فحضر البابا البطريك ومعه أمر الإفراج عنهم جميعًا.
وُهب “أنبا رُوِيس” معرفة أسرار كثيرة، واشتُهر بالصمت، وكان يخبر بأمور تحدث مستقبلاً ويحذر من أضرار ومصائب آتية. عاصر “أنبا رُوِيس” أربعة آباء بطاركة (84-87): “البابا مَرقس الرابع”، “البابا يوحنا العاشر “، “البابا غَبريال الرابع”، “البابا متاؤس الأول”. وذات مرة، ألقى “الأمير يَلْبُغا” القبض على “البابا متاؤس” وبعض الشعب، فأخبروا “أنبا رُوِيس” فتنبأ بخلاصهم، وهو ما حدث فعلاً.
احتمل “أنبا رُوِيس” أتعاب مرض شديد بصبر فريد، وظل طريح الفراش تسع سنوات حتى أُطلق عليه “أيوب الجديد”!! وكان صامتًا مصليًا، شاكرًا الله، باكيًا لأجل توبة الخطاة. وكان يشفي زائريه المرضى، معانيًا آلام مرضه العُضال!! وحين قرُب يوم انتقاله من العالم (عام 1404م)، بارك تلاميذه، ثم انطلقت روحه يوم تَذكار “القديسة السيدة العذراء” التي كان يكِنّ لها محبة شديدة، ودُفن بجانب كنيستها بـ”دير الخندق” المعروف حاليًّا بـ”منطقة الأنبا رُوِيس”. و… والحديث في “مِصر الحلوة” لا ينتهي!
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ