فى ظل عالم تشوبه الاضطرابات والتحديات والانقسامات والسعى صوب المصالح، بات السلام حُلمًا يراود سكان الأرض. فحينما يجوب الإنسان جميع بقاع الدنيا، يجد صراعات قد اتخذت أساليب عدة: حروبًا انتشرت فى أماكن متعددة، أعمال إرهاب مدمرة، اصطدامات فى سبيل الحصول على القوة أو السلطان أو الثروات؛ وإلى جانب كل هذه ما يهاجم البشرية من أوبئة، وما يمر بالإنسان من ضغوط يومية يقاومها من أجل البقاء على قيد الحياة. هكذا لم يعُد مفر من أن يُعلن البشر احتياجهم الماسّ إلى السلام؛ كى ما يمكنهم التغلب على التوترات اليومية. إن السلام انتصار حقيقى للإنسان ـ كما ذكر الفيلسوف الأمريكى «رالف والدو إمرسون»: «الانتصارات الحقيقية والدائمة هى انتصارات السلام، لا انتصارات الحرب». وحين ما نتحدث عن الحرب، فالمقصود الحروب وكل ما يمت لها بصلة من صراعات بين البشر.
وإن كان دور الإنسان فى الأرض هو أن يعمرها ويخطو نحو البناء، ويعمل من أجل خير الإنسانية وتقدمها وتوطيد أسس الحضارة، فالسؤال: كيف يتسنى له أن يحقق ذلك كله وسط أمواج العالم المضطربة، وفى ظل غياب السلام؟! إننا نعلم جميعًا أن النمو والتقدم والبناء لا تتحقق إلا خلال أنفس هادئة مستقرة. نعم، فالعالم اليوم يحتاج إلى هبة السلام التى هى أساس العمل والبناء والإبداع. إن من اختبر ويلات الحرب ليُدرِك أهمية السلام تمامًا. ومن اجتاحت أعماقه أمواج الاضطرابات والهموم، يُدرك حاجته المُلحة إلى السلام. وكما ذُكر: «لن تُدرك البشرية قيمة السلام إلا حين تفتقده؛ فتجوب هائمة على وجهها تسعى من أجله؛ وحين تجده فحينئذ تكون قد أدركت معنى الحياة.».
ومن الأمور الثابتة فى التاريخ أن السلام هو الشرارة الأولى لإطلاق طاقات البشر الإبداعية، ووقود الحياة لتحقيق الإنجازات وتوطيد الحضارات، فى حين غيابه لا يُنتج إلا منازعات تهدر إمكانات الإنسان، وتنتج المشاحنات والحروب والدمار والموت. وسعى البشر نحو السلام هو واجب حتمى، إذ تربطنا جميعًا أواصر الأخوة والإنسانية: فجميعنا أبناء «آدم» و«حواء»، وقد خلقنا الله جميعًا من مصدر واحد لكى يكون الجميع إخوة فى الإنسانية.
ومن هذا المنطلق، تأسست للسلام قيمة خاصة فى الأديان: ففى «المَسيحية» الله هو صانع السلام: ««السُّلْطَانُ وَالْهَيْبَةُ عِنْدَهُ. هُوَ صَانِعُ السَّلاَمِ فِى أَعَالِيهِ..»، والميثاق بين الله والإنسان هو السلام: «لِذٰلِكَ قُلْ: هٰأَنَٰذَا أُعْطِيهِ مِيثَاقِى مِيثَاقَ السَّلاَمِ..»، وبركة الله لشعبه السلام: «الرَّبُّ يُبَارِكُ شَعْبَهُ بِالسَّلاَمِ. »، «إِنِّى أَسْمَعُ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ اللهُ الرَّبُّ، لأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِالسَّلاَمِ لِشَعْبِهِ وَلأَتْقِيَائِهِ..»، ويرتبط السلام بالحياة: «كَانَ عَهْدِى مَعَهُ لِلْحَيَاةِ وَالسَّلاَمِ، وَأَعْطَيْتُهُ إِيَّاهُمَا لِلتَّقْوَى»، كذٰلك تتكرر عبارة: «إلٰه السلام.. وملك السلام» فى كثير من المواضع. وفى «الإسلام»، السلام أحد أسماء «الله»: ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِى لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ﴾، والسلام يرتبط بالجنة وبأهلها: ﴿وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ﴾، ﴿يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾، والسلام هو طريق التعامل مع الآخرين: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَدْخُلُواْ بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّىٰ تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ عَلَىٰ أَهْلِهَا ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾، بل السلام فى التحيات أيضًا: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا﴾، وفى الحديث قيل عن السلام: {ثَلَاثٌ مَنْ جَمَعَهُنَّ فَقَدْ جَمَعَ الْإِيمَانَ: الْإِنْصَافُ مِنْ نَفْسِكَ، وَبَذْلُ السَّلاَمِ لِلْعَالَمِ، وَالإِنْفَاقُ مِنَ الْإِقْتَارِ}. وهكذا بات السلام قيمة راسخة فى تعاليم الأديان ووصاياها إلى الإنسان و… والحديث فى «مِصر الحلوة» لا ينتهى!.
الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى