بدأ الحديث فى المقالة السابقة «الانتصارات الحقيقية»: بـ«السلام»، واحتياج البشر الماسّ إليه، وكيف أن تحقيقه يُعد انتصارًا حقيقيًّا للإنسان فى الحياة؛ إذ هو الطريق نحو البناء والرقى اللذين لا يتحققان فى غيابه، وهو حجر أساس العمل والتقدم، والشرارة الأولى لإطلاق طاقات البشر الإبداعية؛ وأشيرَ إلى أهمية قيمة السلام الراسخة بالأديان المنادية والموصية بأن يسلك البشر فيه بكل أنواعه وأساليبه، عاملين لتحقيقه وإحلاله بينهم؛ ومن ثَم تولدت رسالة السلام كدور مهم من أدوار البشر؛ وهٰذا ما ستفرد له مقالة اليوم.
إن السلام هو الطريق نحو الخير؛ لذا يوصى «الكتاب» الإنسان الذى يجدّ فى طلب الخير أن يبعُد عن كل ما هو شر ويسعى للسلام: «مَنْ هُوَ الْإِنْسَانُ الَّذِى يَهْوَى الْحَيَاةَ، وَيُحِبُّ كَثْرَةَ اْلأَيَّامِ لِيَرَى خَيْرًا؟… حِدْ عَنِ الشَّرِّ، وَاصْنَعِ الْخَيْرَ. اطْلُبِ السَّلاَمَةَ، وَاسْعَ وَرَاءَهَا». والسلام يجلُِب السعادة لمن يسلك به: «الْغِشُّ فِى قَلْبِ الَّذِينَ يُفَكِّرُونَ فِى الشَّرِّ، أَمَّا الْمُشِيرُونَ بالسَّلَامِ فَلَهُمْ فَرَحٌ»، وقد أوصى الله شعبه أن يقضوا بالحق ويسلكوا بالسلام: «هٰذِهِ هِى الْأُمُورُ الَّتِى تَفْعَلُونَهَا. لِيُكَلِّمْ كُلُّ إِنْسَانٍ قَرِيبَهُ بِالْحَقِّ. اقْضُوا بِالْحَقِّ وَقَضَاءِ السَّلَامِ فِى أَبْوَابِكُمْ»، وأن يحبوا السلام: «فَأَحِبُّوا الْحَقَّ وَالسَّلَامَ». وقد علّم السيد المسيح تلاميذه فى «العظة على الجبل»: «طُوبَى لِصَانِعِى السَّلَامِ، لِأَنَّهُمْ أَبْنَاءَ اللهِ يُدْعَوْنَ»؛ فصُنع السلام يرفع الإنسان إلى مرتبة عالية فيصير ابنًا لله؛ ولذا علّم التلاميذ بالعمل للسلام: «أَخِيرًا أَيُّهَا الْإِخْوَةُ افْرَحُوا. اكْمَلُوا. تَعَزَّوْا. اهْتَمُّوا اهْتِمَامًا وَاحِدًا. عِيشُوا بِالسَّلَامِ، وَإِلٰهُ الْمَحَبَّةِ وَالسَّلاَمِ سَيَكُونُ مَعَكُمْ»، وبالجِد فى السعى له: «لِيُعْرِضْ عَنِ الشَّرِّ وَيَصْنَعِ الْخَيْرَ، لِيَطْلُبِ السَّلاَمَ وَيَجِدَّ فِى أَثَرِهِ»، وبصنعه لكل إنسان: «اتْبَعُوا السَّلَامَ مَعَ الْجَمِيعِ». والسلام يستتبع الراحة للصديقين، أمّا الأشرار فلا يعرِفونه: «طَرِيقُ السَّلَامِ لَمْ يَعْرِفُوهُ، وَلَيْسَ فِى مَسَالِكِهِمْ عَدْلٌ. جَعَلُوا لِأَنْفُسِهِمْ سُبُلًا مُعْوَجَّةً. كُلُّ مَنْ يَسِيرُ فِيهَا لَا يَعْرِفُ سَلاَمًا».
وفى «القرآن» للسلام عدة معانٍ وإشارات: منها أنه من أسماء الله، وتحية الآخرين، والسلامة من الشر، والثناء الحسَن، والخير، وخلوص الشىء من كل شائبة؛ ومن الآيات التى ذُكرت السلام: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِى السِّلْمِ كَآفَّةً﴾؛ وأيضًا: ﴿وَاللهُ يَدْعُو إِلَىٰ دَارِ السَّلَامِ﴾، كما يدعو إلى التعارف والمودة بين البشر جميعًا: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ﴾. أمّا المؤمنون السالكون بالوقار والتواضع والخَشية والسكينة، فإنهم يصدون أحاديث الجهلاء بأحاديث السلام والحِلم، أو يتحدثون (كما ذكرت كثير من التفاسير): «بالمعروف من القول، والسداد من الخطاب»، ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾. وقد تكررت وصية «إفشاء السلام» فى الأحاديث النبوية: «أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ»؛ وإفشاء السلام هو نشره والإكثار منه، وأيضًا: «أَفْشِ السَّلَامَ، وَأَطِبِ الْكَلَامَ، وَصِلِ الْأَرْحَامَ، وَقُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلِ الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ»، و«تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ»؛ وذُكر أن فى نشر السلام علوًّا وارتفاعًا: «أَفْشُوا السَّلَامَ؛ كَيْ تَعْلُوا»، وعلى النقيض: «إِنَّ أبْخَلَ النَّاسِ مَنْ بخِلَ بالسَّلَامِ وَأَعْجَزَ النَّاسِ مَنْ عَجَزَ عَنِ الدُّعَاءِ».
وهٰكذا بات السلام وصية هامة قدمت للبشر كى يسلكوا بها فى الحياة بعضهم نحو بعض، وصنعهم إياه يُعد علامة ثباتهم فى التعاليم والوصايا الدينية، والطريق إلى السماء، ومعرفة الله الحقة. حقًّا: إن السلام علامة ساطعة فى حياة المؤمنين، وطريق مفقود من حياة الأشرار إذ ضلوا عن معرفة الحق وفقدوا طريق الحياة. و.. والحديث فى «مِصر الحلوة» لا ينتهى!.
الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى