تحدثت المقالة السابقة «علامة ساطعة» عن رسالة «السلام» بوصفه دورًا هامًّا من أدوار البشر، ووصية دينية بالغة الأهمية إلى الإنسان؛ إذ شددت الأديان عليه كى يسلك به البشر بعضهم نحو بعض فى الحياة. والسلام هو أصل بناء الحضارة الإنسانية فى العالم فقد كتب «William Durant» فى كتابه «قصة الحضارة»: «وإنما تتألف الحضارة من عناصر أربعة: الموارد الاقتصادية، والنظم السياسية، والتقاليد الخلقية، ومتابعة العلوم والفنون؛ وهى تبدأ حيث ينتهى الاضطراب والقلق، لأنه إذا ما أمِن الإنسان من الخوف، تحررت فى نفسه دوافع التطلع وعوامل الإبداع والإنشاء؛ وبعدئذ، لا تنفك الحوافز الطبيعية تستنهضه للمضى فى طريقه إلى فَهم الحياة وازدهارها»؛ وهٰكذا يرى Durant أن الحضارة تبدأ حيث ينتهى اضطراب البشر وقلقهم. ولا نهاية للاضطراب والقلق إلا بحلول السلام والأمن بين أفراد المجتمع الواحد وبين دُول العالم بأسره. وعندما يحُِل السلام تبدأ خطوات البشر نحو البناء والتعمير والإنماء.
من هنا، على البشر أن يُدركوا أن لا بديل عن السلام إذا أرادوا بناء مجتمعاتهم، فعندما نتصفح التاريخ الإنسانى، نجد أن أسس ازدهار المجتمعات وبناء الحضارة لم تتأتَّ فى أزمنة الحروب أو الصراعات، بل على النقيض: كلما ازدادت الصراعات انهارت المجتمعات وتلاشت من الوجود. فالسلام يحفظ أمن البلاد، إلى جانب أنه يشدد عزائم الشُّعوب من أجل البنيان والعمل وتحقيق الإنجازات. وتُعد تهيئة القواعد الإنسانية المشتركة، التى يتحتم على البشر أن يسلكوا بها، هى أحد أهم أسس السلام فى المجتمعات؛ فالحياة تحتاج فى واقع الأمر إلى مرونة كبيرة؛ لذٰلك على الإنسان أن يسعى ويجدّ من أجل اكتساب مرونة الحياة، التى تمكنه من معاملة الآخرين بوعى يؤمن بالاختلافات القائمة بين البشر، وبالارتقاء فى معالجة هذه الاختلافات بأساليب ناضجة بعيدًا تمامًا عن القطيعة والتجاهل والاحتداد والعنف؛ إن علينا أن نتذكر: «السلام لا يعنى غياب الصراعات، فالاختلاف سيستمر فى الوجود. السلام يعنى أن نحُل هذه الاختلافات بوسائل سلمية: بالحوار، بالتعليم، بالمعرفة، بالطرق الإنسانية».
والسلام هو أيضًا طريق المجتمعات نحو التعلم والانشغال بالدراسات ونشر الثقافة لكى تنهض، فلم يُعرف طريق إلى تحضر المجتمعات وتقدمها إلا فى الأزمنة التى ساد فيها السلام؛ فهو المسيرة الإنسانية لاستمرار نمو البشرية وتطلعها نحو قوى البناء والرقى. أما رخاء المجتمع وراحته فلا يتأتى إلا بالإبداعات التى ينطلق الإنسان تجاهها عندما يشعر بالأمن والسلام، وكما قيل: «إن البيئة السليمة أساس الحياة الاجتماعية الناجحة»؛ وهٰذا يعنى أنه إن أرادت المجتمعات اليوم أن تجد سبيلاً إلى الرخاء فعليها أن تنشر السلام بين أفرادها بشتى الطرق والوسائل كافة، وإن أراد العالَم أن ينطلق نحو الإنجازات فعليه أن يتكاتف معًا من أجل إرساء سفنه على مَرفأ السلام.
إن السلام الذى نسعى لتحقيقه الآن لهو أساس الحياة الكريمة صوب المستقبل الذى ننشده لأبنائنا؛ إذ إننا ننأى بهم عن الصراعات فيستثمرون قدراتهم فى العلم والعمل، لتحقيق الإبداعات والابتكارات التى تقود البلاد بخطوات واسعة وثّابة نحو الريادة والتقدم وتأكيد دورها فى المجتمع الدُّولى، وحين تعرف المجتمعات طريقها نحو السلام فهٰذا يُعد بمنزلة دعوة جلية إلى الاستثمارات فيها؛ إذ يشعر المسثمرون على المستويين المحلى والعالمى بالأمن وبالسلام؛ ما يؤثر فى نمو هٰذه المجتمعات الاقتصادية الذى بدوره يعود بالخير على أهلها، إلى جانب نشاط القطاعات الاجتماعية.
إن السلام دائمًا هو القوة الدافعة إلى التنمية من أجل تحقيق النهضة على جميع الأصعدة، وهو خِيار البشر الوحيد إن أرادوا الحياة! و… والحديث فى «مِصر الحلوة» لا ينتهى!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى