عرضَت المقالة السابقة “الخِيار الوحيد” لدَّور السلام في بناء الحضارة الإنسانية وبناء المجتمعات الذي لا بديل عنه. وقد وصلتني رسالة من قارئ عزيز جاء فيها: “في بناء المجتمعات نحتاج إلى العمل الجاد كي ما نتمكن من تأمين مستقبل أولادنا”؛ وأوافقه أنه من دون عمل جاد لا بناء للمجتمعات ولا تقدم لها. غير أن البناء يحتاج إلى مِظلة السلام التي تحميه وتشدده؛ فالحروب والصراعات والانقسامات لا تصنع مجتمعات سوية قادرة على اجتياز تحديات الواقع وتحقيق آمال المستقبل؛ لذٰلك آثرت أن أكتُب اليوم عن الحرب والسلام.
إن العالم الذي عانى ويلات الحروب، وبخاصة الحربان العالميتان، لم يُدرك أهمية الحاجة إلى السلام إلا حين افتقده سنوات طوالاً!! حين ترك البشر مهماتهم الأساسية في العمل والبناء والحياة، وانشغلوا بالحروب وهدم الآخر والموت، غير مدركين أنها تحمل في طِياتها انهزامًا لمعاني الإنسانية لكل الأطراف المتحاربة. وكما يعرف الجميع، فإن احتياج الإنسان إلى الأمان هو أول مطلب يُلح بعد إشباع حاجاته الحيوية، ومن دون أمان واستقرار نفسي للإنسان تضطرب قدرات عقله؛ وهٰكذا تصبح الحروب والاضطرابات والانقسامات عوائق في سبيل بناء الإنسان والمجتمعات.
إن السلام هو مِظلة أمان البشر التي تجنبهم آثارًا بشعة تخلفها الحروب من قتل وتدمير: مثلما خلفت الحرب العالمية الأولى (1914-1918م) دمارًا استمر قرابة عَقد من الزمان في دول العالم، ونتج عنها موت 8 إلى 10 ملايين جنديّ، وعجز 7 ملايين، وإصابة 15 مليونًا بإصابات خطيرة!! وعلى الرغم من أنه لم تحسب أعداد القتلى المدنيِّين جراء تلك الحرب، فإن تأكيدًا من الدارسين أن عددهم يقترب من 13 مليونًا!! وفي “ألمانيا” وحدها، قُتل 474 ألف مدنيّ. وإلى جانب ذٰلك، مجاعات أودت بحياة ملايين البشر، وتفكك أسر وتشرد ملايين وخاصة بـ”أوروبا” و”آسيا”: ففي “روسيا” كان تقدير عدد الأطفال المشردين 4٬5 إلى 7 ملايين!! وقد زادت الأمراض إبان تلك الحرب: فانتشر وباء “تيفوس” الذي أمات 200 ألف إنسان في “صربيا”، و3 ملايين في “روسيا”، كما انتشر وباء “إنفلوِنزا” الأسبانية بكل العالم وأمات 50 مليونًا على أقل تقدير، ناهينا بخسائر اقتصادية أصابت دولاً وامتدت بها عقودًا عديدة. أمّا الحرب العالمية الثانية (1939-1945م)، فتُعد من أعنف الصراعات المدمرة في التاريخ البشريّ؛ إذ قُدِّر موتاها بـ55 إلى 62 مليونًا، غير ملايين من جرحى ومشوهين، مع إفناء لمدينتين كاملتين: “هيروشيما” و”ناجازاكي” اليابانيتين، وانهيار اقتصادي بدول عديدة، وازدياد البطالة والمشردين بالعالم؛ إنه ثمن الحروب، كما ذكر “بنچامين فرانكلين”: “لا تُدفع قيمة الحروب في وقت الحرب، لٰكن تأتي الفاتورة فيما بعد.”، إذ تحتاج الدُّول والمجتمعات إلى وقت كثير وجَهد بالغ وأموال ضخمة لتعود إلى سابق عهدها، إن استطاعت!!
إن تأثير الحروب في البشر لأمر يروع النفوس، إذ لا تخلف وراءها سوى دمار البشر: فلا نجد إلا موتًا وتشوهات، وآثارًا نفسية سلبية في الإنسان كالاكتئاب والهستيريا والقلق المرضيّ التي تؤثر بدورها سلبًا في صحته الجسدية؛ فنراه يعاني شعورًا بالتعب والإجهاد، وعدم قدرة على التركيز الكافي، وأضرارًا جسدية كاضطرابات القلب والمعدة، بل قد تصل به إلى إيذاء المخ!! ويتخطى تأثير الحرب البشر إلى البيئة فيشيع حولهم الخراب في كل مكان: فالبشر يفقدون حياتهم والمجتمعات تتدمر، وعلى الفور تتأثر الكائنات الأخرى من حيوان يفقد بيئته اللازمة لحياته، ونبات تحرقة انفجارات القنابل، إلى جانب تلوث بالبيئة، وفقدان للموارد الطبيعية. ترى، كيف يبدو العالم، إن ساده السلام وتجنب البشر ويلات الحروب؟!!! و… والحديث في “مِصر الحلوة” لا ينتهي!
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ