«لا يكفى الحديث عن السلام، بل يجب على المرء أن يؤمن به؛ وأيضًا لا يكفى الإيمان به، بل يجب على الشخص أن يعمل من أجله».. قال «آلينور رُزفلت». تحدثنا عن ارتباط طريق السلام بالحياة ونهاية الصراعات بالموت وبالفناء؛ ما دفع العالم إلى السعى نحو السلام وإطلاق جوائز للسلام دُولية، إلا أن تحقيق السلام يبدأ من داخل الإنسان ثم ينطلق نحو الآخرين، إنه رحلة لكل منا إلى أعماق النفس لنكتشف مكنوناتها نحو الله والذات والآخرين.
سلام مع الله
يقول الشاعر «چورچ هِربِرت»: «حينما يوجد السلام، يوجد الله»؛ نعم، فالسلام الحقيقى يبدأ فى حياة الإنسان مع بَدء عَلاقته بالله خالقه جابله؛ فالله هو المصدر الوحيد للسلام الذى لا يمكن للأحداث والظروف أن تنتزعه من الشخص. ولذا فأنبياء الله وأبراره وقديسوه يتمتعون بسلام هائل فى حياتهم على الرغم من الصعوبات والمشقات التى يلاقونها من أشرار يرفضونهم!. وطريق السلام هو طريق الخير، فما من إنسان صدّيق إلا ونجده متمتعًا بهدوء النفس والسلام، فى الوقت الذى أقدام الأشرار لا تعرف سبل الراحة والسلام كما ذكر «الكتاب»: «لَا سَلَامَ، قَالَ الرَّبُّ لِلأَشْرَارِ». وفى «القرآن»، نجد السلام يتبع الصالحين: ﴿يَهْدِى بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ﴾؛ لذلك تُعد العودة إلى الله بالتوبة أولى خطوات السلام فى حياة الإنسان. فالتوبة هى تغيير اتجاه حياة الشخص، إذ يتجه بكل قلبه نحو الله، راغبًا فى المسير نحو الخير، رافضًا الشر والخطيئة. والتوبة تُرجع الله إلى الإنسان كما ذكر «الكتاب»: «ارْجِعُوا إِلَيَّ أَرْجعْ إِلَيْكُمْ، قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ». وفى «القرآن»: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُولَٰئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾. والتوبة الحقيقية تحوِّل الإنسان من أفعال الشر والخطيئة إلى الخير والفضيلة؛ ومن ثَم نجد القلق والاضطراب فى حياته قد أمسَيا سلامًا وطمأنينة.
سلام مع النفس
يقال: «السلام أمر عفوىّ، إنه يوحدنا. يجب أن ننشر السلام، ولكن ما لم يكُن سلام عميق بداخلنا، فلا يمكننا أبدًا أن نأمل أن نحقق السلام فى العالم الخارجىّ». يحتاج الإنسان أيضًا أن يُدرك أعماقه وما بها من صراعات، حتى يتمكن من التصالح مع نفسه والعيش فى سلام، فلا شك أن الصراعات الداخلية التى تمر بالإنسان تفقده سلامه؛ ومن ثم تنعكس هذه فى حياته ومع الآخرين. لذلك على الإنسان أن يبحث ويفتش داخل نفسه عن أسباب اضطراباته.
يُعد القلق أحد مظاهر عدم وجود السلام فى حياة البشر، وليس المقصود بالقلق المشاعر التى تمر بالبشر من حين إلى آخر، والتى تُعد ظاهرة إنسانية طبيعية فى الحياة ونتاجًا طبيعيًّا لما يتعرضون له من ضغوط ومشكلات، بل هو مشاعر مُلحّة تسيطر على فكر الإنسان، فتتأجج حتى تصبح عائقًا كبيرًا أمامه عن التفكير بإيجابية فى تخطى الصعوبات والمشكلات.
كذلك الفكر السلبىّ عن الذات يضع الإنسان فى دائرة لا تنتهى من السلبيات والتوترات وعدم القدرة على اتخاذ الصحيح من القرارات؛ ومن ثَم يسرع بخطاه نحو الفشل؛ وقد يمتد تأثير الفكر السلبىّ فى بعض الأحيان إلى معاداة الآخرين وتجريحهم، وتصيد الأخطاء لهم، ما يفقده سلامه مع نفسه ومن حوله.
لذلك من المفيد للإنسان أن يختلى بنفسه من وقت إلى آخر؛ ليقيّم أفكاره وأعماله ومشاعره الحقيقية وعَلاقته بنفسه التى تنعكس مباشرةً على الآخرين. وأود أن أؤكد أن عَلاقتَى الإنسان بنفسه وبالآخرين متشابكتان متداخلتان، تؤثر كل منهما فى الأخرى بشدة، وفى الأساس: هما نتاج طبيعىّ لعَلاقته بالله.
و… والحديث فى «مِصر الحلوة» لا ينتهى!
الأسقف العامرئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى