احتفل مَسيحيو الشرق أمس بعيد «الغطاس»، وهو تذكار معمودية «السيد المسيح» بيد «يوحنا المَعمدان» فى نهر الأردن: «حينئذ جاء يسوع من الجليل إلى الأردن إلى يوحنا ليعتمد منه. ولكنْ يوحنا منعه قائلًا: «أنا محتاج أن أعتمد منك وأنت تأتى إلىَّ!»، فقال يسوع له: «اسمح الآن، لأنه هكذا يليق بنا أن نكمِّل كل بِر». حينئذ سمح له. فلما اعتمد يسوع، صعد للوقت من الماء، وإذا السموات قد انفتحت له، فرأى روح الله نازلًا مثل حمامة وآتيًا عليه، وصوت من السموات قائلًا: «هذا هو ابنى الحبيب الذى به سُرِرتُ». ومن بعدئذ بدأت خدمة «السيد المسيح» بين الشعب. أما اسم «عيد الغطاس»، فهو يشير إلى ما يُجرى للمولود عند تعميده بتغطيسه فى الماء. ويُشتهر «عيد الغطاس» بعدة أسماء: «عيد الأنوار»، و«عيد الظهور الإلهى» (الثيئوفانيا)، و«عيد العماد»، و«عيد الحَميم»، و«عيد الدِنِح» بحسب التسمية فى الكنيسة السريانية.. و«الدِنِح» كلمة سريانية تعنى: الظهور، الإعلان، الإشراق، الكشف.
ويُعد «عيد الغطاس» من الأعياد المَسيحية المهمة، فقد ذكر آباء الكنيسة، ومنهم القديس «يوحنا الذهبى الفم» بطريرك أنطاكية: «إن (عيد الظهور الإلهى) هو من الأعياد الأولية عندنا»، وأيضًا قال: «لم يعرف الشعب يسوع قبل المعمودية، وأما فى المعمودية فقد ظهر للجميع». وكان المَسيحيون حتى القرن الثالث الميلادى يحتفلون بعيدَى «الميلاد» و«الغطاس» معًا، إلا أنه فيما بعد تم فصل العيدين وصار يُحتفل بكل عيد منفصلًا فى ميعاده.
ومن أشهر مأكولات «عيد الغطاس»: «القلقاس»؛ الذى يحمل عددًا من الإشارات إلى «المعمودية»، منها: أنه نبات يُدفن كاملًا فى الأرض لينمو نباتًا يمكن أكله، إشارةً إلى المعمودية التى يُغطس فيها الإنسان تحت الماء حتى تغمره كاملًا (كأنه يُدفن) ثم يقوم منه، مثلما حدث للسيد المسيح عند اعتماده فى «نهر الأردن». أيضا القصب والبرتقال من مأكولات «عيد الغطاس»: إذ تشتهران بغزارة سوائلهما التى تشير إلى الماء، وبحلاوة طعمهما رمزًا لأفراح المعمودية. وكان يُصنع من قشر البرتقال فوانيس توضع بها شموع للإنارة، إذ كان أجدادنا يحتفلون بقداس «عيد الغطاس» على أحد المجارى المائية.
ومن العادات الموروثة فى بعض بلاد الشرق أنه فى عشية «عيد الغطاس»، تهتم السيدات بإعداد حَلويات العيد المتنوعة، مثل «الزلابية» و«القطائف» اللتين تُعدان رمزًا للغطاس؛ إذ يُغطس العجين بالزيت ثم يعلو بشكل جديد. ولا ينام المَسيحيون ليلة «الغطاس» حتى مرور «الدايِم دايِم» أى «السيد المسيح» عند منتصف الليل؛ ليبارك المنازل والناس. وفى اليوم التالى، يُحضر الناس الماء فى زجاجات وأباريق خلال قداس العيد ليتقدس بالصلاة؛ فيتبركون منه ويرشون به المنازل وشجرة الميلاد ومغارته والحقول؛ من أجل بركة الله.
ويذكر المؤرخون أن الاحتفال بعيدى «الميلاد» و«الغطاس» كان مظهرًا مِصريًّا صميمًا؛ إذ كان المِصريون جميعًا يحتفلون بهما بالتنزه على «نهر النيل»، وهكذا كانت تشمل فرحة العيد جميع المِصريين، مسلميهم ومَسيحييهم فى تشارك تغمره المحبة.. إلا أن تلك الاحتفالات توقفت إبان حكم الدولة العثمانية على «مِصر»؛ يذكر «المقريزى» عيد الغطاس: «فصار النصارى يقسمون أولادهم فى الماء فى هذا اليوم، وينزلون فيه بأجمعهم، ولا يكون ذلك إلا فى شدة البرد، ويسمونه (يوم الغطاس)، وكان له بـ(مِصر) موسم عظيم للغاية». كما يذكر المؤرخ «المسعودى»: «ولليلة (الغطاس) بـ(مِصر) شأن عظيم عند أهلها، لا ينام الناس فيها، وهى ليلة إحدى عشرة تمضى [من طوبة وستة من] كانون الثانى».. ثم وصف الاحتفالات التى شاهدها مع أمير مِصر «مُحمد بن طُغچ الإخشيد»: «وقد حضر النيل فى تلك الليلة مائة ألف من الناس [من] المسلمين والنصارى، منهم فى الزوارق، ومنهم فى الدُّور الدانية من النيل، ومنهم على الشطوط، لا يتناكرون الحضور، ويُحضرون كل ما يمكنهم إظهاره من المآكل والمشارب والملابس وآلات الذهب والفِضة والجواهر والملاهى والعزف والقَصْف (اللهو واللَّعِب بجَلَبة)؛ وهى أحسن ليلة تكون بـ(مِصر)، وأشملها سرورًا، ولا تُغلق فيها الدُّروب، ويُغطس أكثرهم فى (النيل)، ويزعمون أن ذلك أمان من المرض، ومبرئ للداء».
كل عام وجميعكم بخير وسلام.
.. والحديث فى «مِصر الحلوة» لا ينتهى!.
الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى