تحدثنا في مقالة سابقة عن أهمية التنوع في حياة البشر وبناء المجتمعات؛ وأن الأبحاث قد أشارت إلى أن المجموعات المتنوعة تتسم بالذكاء الأعلى إذ تجاوزت طرق التفكير التقليدية، وبتركيزها في جمع الحقائق، وبمناقشة ما لديها من أدلة وافتراضات؛ ما جعلها أكثر موضوعية في اتخاذ القرارات. ولا شك أن الاستفادة من التنوع في المجتمعات ليس سهلاً، بل يحتاج إلى وعي ودراسة لإمكانات التطبيق التي تعود بالفائدة عليها. كذٰلك عرضنا بعض الأمور المهمة في التنوع.
غير أنه من جهة أخرى، علينا بتحاشي أسباب الصراعات التي تفتت المجتمع، ومنها:
- الجهل: كثيرًا ما يجد الإنسان أن المتنازعين والمتناحرين على أمر ما ليسوا على دراية كاملة بحقيقة الأمور المتنازع عليها، فيتمسك كل منهم بوجهة نظره، دون محاولة إيجاد القواعد المشتركة التي يمكن البناء عليها، وخلق حلول لما يختلفون عليه. وقد يكون الجهل في عدم الوعي بما لدى الآخرين من حقوق تجب مراعاتها، أو عدم معرفة الآخر حق المعرفة حتى يمكن الحكم عليه؛ وهنا تُطل الشائعات برأسها القبيح لتؤدي دورًا أساسيًّا في حفز بعضهم إلى الإتيان بتصرفات هوجاء تؤثر سلبًا وبالأخص على المستوى المجتمعيّ. ولدرء الجهل وعدم إدراك الحقائق، يجب الاهتمام بجميع سبل التوعية وبتثقيف أفراد المجتمع.
- التعصب: إن التعصب لشخص أو لفكر له دور خطير في تفشي الصراعات بين أبناء المجتمع الواحد، إذ يغض كل طرف بصره عن الحقائق، أو جزء منها على أفضل تقدير؛ من أجل تحقيق مكاسب ينشدها. كذٰلك يعمل التعصب على رفض الآخر، بل إنكار التنوع برمته! وأعتقد أن للحوار الواعي وتقديم مفاهيم الأديان على نحو سليم دورًا عظيمًا في تصويب الفكر، مع توضيح أن لا إنسان يمتلك المعرفة الكاملة، بل جميعنا يسعى للاقتراب منها.
- الظلم: من أقسى ما يمر بالبشر هو شعورهم بالظلم؛ مما يفقد كثيرين موضوعيتهم ويقودهم إلى تصرفات غير متوازنة. فالعدل هو الطريق إلى الابتعاد عن التحيز، وأرضية خصبة لدراسة الأمور بموضوعية وإيجابية. وعموما، العدل والسلام رفيقا طريق الحياة – وسنتحدث عن هذا بشيء من التفصيل في حينه.
- الآخر: من أصعب ما يعترض قَبول “التنوع” في المجتمعات هو الإصرار على عدم قَبول الآخر! فيُظن ذلك الشخص أن الآخرين أدنى منه في الإمكانات أو الفكر أو الثقافة، في غير مبالاة بإنسانيتهم الموهوبة لهم من الله؛ لذٰلك على رافضي الآخرين أن يُدركوا المفاهيم المشتركة التي أقرتها الأديان، فإقرار وجود فضائل مشتركة وسلوكيات إنسانية بين البشر: كالحث على فعل الخير، والود، والتسامح، والرأفة؛ لَضروروة تحطم حواجز كثيرة قد تفصل بين أبناء الوطن الواحد، وتبني صورة ذهنية إنسانية سليمة وإيجابية نحو الآخر.
لذٰلك، يحتاج غرس مفهوم “التنوع” إلى التثقيف؛ من أجل بناء ثقافة تنظيمية متسامحة تتقبل الآخر وتحترم خصوصياته، مع غرس مفهوم الإنسانية بما تحمله من محبة وود ورحمة؛ وهنا أقتبس قول الزعيم الراحل “نِلسون ماندِلا”: “لا أحد يولَد يكره الآخر بسبب لون بشرته، أو خلفيته، أو دينه … الناس يتعلمون الكراهية … وإن كانوا قد تعلموا الكراهية، فمن الممكن أن يعلَّموا الحب … فالحب أقرب إلى الطبيعة الإنسانية من الكره.”. أيضًا توضيح معنى الحرية الحقيقية التي لا تجور على حقوق الآخرين بين البشر. إلى جانب الاعتراف بقيمة التنوع – فالأديان قبِلت فكر التنوع والتعدد كما ذكرنا في مقالات سابقة، وربط قيمة التنوع بما يحتاجه المجتمع.
إن غرس مفهوم “التنوع”، والتعايش مع الآخر من أجل سلام الأوطان وبُنيانها، لن يتحقق بالكلمات، بل بالعمل الجاد المضني من أجل توطيد النهوض بالمجتمعات والأمم، وبتقديم جوهر الأديان الذي يحترم إنسانية البشر، بأعمال وأفعال تثبت أقدامنا الساعية نحو السلام والبناء والسعادة للجميع في طريق الحياة. والحديث في “مِصر الحلوة” لا ينتهي!
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ