وفى مِصر الحُلوة تتضافر الاحتفالات وتتشابك ليتوحد حولها الشعب المِصرىَ بمسلميه ومسيحيِّيه على قلب رجل واحد. فيأتى الاستفتاء على «دُستور مصر» الجديد مذهلًا للعالم بأسره بنتيجته المبهرة والبراقة التى شارك فى صنعها المصريّون المحبّون لبلادهم، لتتزامن والاحتفالات بعيد «الغطاس» أحد الأعياد السيِّدية الكبرى التى يحتفل بها أقباط مِصر فى التاسع عشر من يناير الموافق الحادى عشر من طوبة. فكل التهنئة نقدمها إلى الشعب المِصرى على «دُستور مِصر» وعيد «الغطاس».
ذكر متى الرسول: «حينئذ جاء يسوع من الجليل إلى الأردنّ إلى يوحنا ليَعْتَمد منه. ولكنْ يوحنا منعه قائلًا: (أنا محتاج أن أعْتَمِد منك وأنت تأتى إلىَّ!). فأجاب يسوع وقال له: (اسمح الآن، لأنه هكذا يليق بنا أن نُكَمِّل كل بر). حينئذ سمَح له. فلما اعْتَمَد يسوع صعِد للوقت من الماء، وإذا السماوات قد انفتحت له، فرأى روح الله نازلًا مثلَ حمامة وآتياً عليه، وصوتاً من السموات قائلًا: (هذا هو ابنى الحبيب الذى به سُررتُ)».
أسماء عيد الغطاس
يُطلَق على عيد الغطاس عدة أسماء منها: عيد «الأَبِيفانْيا»، وعيد «الثِيؤفانْيا»، وعيد «الظهور الإلٰهىّ»، وعيد «الغِطاس»، وعيد «تكريس المياه»، وعيد «التنوير»، وعيد «العِماد». وعند الكنائس السُِريانية والأرمينية يُسمَّى عيد «الدِّنح»، وهى كلِمة سُريانية تعنى «الظهورَ والإشراق» وتشير إلى ظهور «السيد المسيح» فى الحياة العلنية وإظهار ذاته أمام الشعب.
الاحتفال بالعيد
وحسب التقاليد الكنسية فإن الاحتفال بهذا العيد جليل، فقد ذكر القديس يوحنا الذهبىّ الفم بطريرك أنطاكِية: «إن عيد الظهور الإلهى هو من الأعياد الأولية عندنا». وكان من عادة المسيحيِّين القُدامى أن يُعَمِّدوا الموعوظين فى هذا العيد، ولا يزال البعض يُعَمِّدون أولادهم فيه.
مظاهر العيد
تتفق الكنائس جميعًا فى احتفالاتها بصلوات لتبريك المياه تُسمَّى صلوات «اللَّقّان»، التى يبارَك بها الشعب والمنازل والحقول.
بُلغاريا واليونان وإسطنبول
ويُحتفل بإلقاء صليب فى البحر، ثم يغوص الشباب فيه لاسترجاعه، والفائز هو من يستطيع الإمساك بالصليب واستعادته، ثم يغطسون فى بِرَك المياه المتجمدة.
إسبانيا وأمريكا اللاتينية
وتجرى الاحتفالات هناك فى مواكب موسيقية مزينة ضخمة مبهرة بأضوائها وألعابها النارية، وتُقدم الهدايا على غِرار ما كان من قِبل المجوس الثلاثة. وتقدم «لابيفانا» ـ وهى تماثل بابا نويل ـ الهدايا إلى الأطفال فى ليلة السادس من يناير من كل عام الذى يعيِّدون فيه بالغِطاس.
العراق وسوريا ولبنان
وفى الشرق، تكون ليلة عيد «الغطاس» أو عيد «الدِّنح» حسبما يطلقون عليه ليلة خاصة جدًّا، إذ يؤمنون بأن «السيد المسيح» أو «دايم دايم» يمر ليبارك البيوت والناس، فيوقدون مصابيح المنازل طَوال الليل، ولا يغطون الدقيق ليبارك فى معاجنهم وخبزهم.
ومن عادات العيد هناك، البحث عن زهور «بَخور مريم» وجمعها فى عِقد من خَيط الكَتان لليلة العيد، وبعد أن يبارَك فى العيد يُحفظ لحرق بعض حُبيباته كبَخور حال حدوث مرض أو مشكلة. وأيضًا فى ليلة العيد، تُحضَّر عجينة من دون خمير، وتوضع فى كيس من الكَتان الأبيض مع عِقد بَخور مريم على شجرة مباركة.
وفى منتصف ليلة الغِطاس، يستحم الجميع بالمياه المسخنة بحطب السِّنديان. ثم يضعون خَيط كَتان أبيض على معاصم الأيدى وأعمدة البيت. وفى الصباح الباكر، يخرجون حاملين زجاجات وأباريق مياه لحضور صلاة تبريك المياه، وبعدها تُرش المياه على كل الحاضرين فى الكنيسة. ثم تبدأ صلاة القداس، وبعد الانتهاء يأخذون من المياه المباركة إلى بيوتهم ليشربوا منها خلال السنة، وليرشوا المنازل وشجرة الميلاد ومغارته والحقول بالماء المقدس. وفى صباح العيد، يهنئ الناس بعضهم بعضاً بعبارة «دايم دايم أخدت شطارتك» التى ما زالت تتردد وبخاصة فى القرى.
ومن العادات الشعبية فى يوم «عيد الغطاس» الاستحمام، إذ يعتقد الناس أن المياه تتقدس فى هذا اليوم كما تقدست مياه «نهر الأردنّ» بمعمودية «السيد المسيح» فيه. ثم يؤخذ كيس العجينة إلى النبع لتغطيسه فى المياه ثلاث مرات، ويكرَّر هذا ثلاثة أيام متتالية، يُدخل بالكيس بعدها إلى المنزل لتُستخدم تلك العجينة كخمير لخبز المنزل طَوال العام. ويُستخدم بعض منها لإعداد حَلْويات الغطاس ومأكولاته.
ومن أنواع الأطعمة المرتبطة بهذا العيد: العوامة، الزلابية، أصابع العروس، القطايف، وهى مصنوعة من العجين بأشكال مختلفة، وتقلى بالزيت، ثم تُحلَّى بالسكر. وترمز إلى الغطاس، إذ تُغطس فى الزيت أولًا، ثم تخرج بشكل جديد.
وفى حِمْص تكون حَلْويات «عيد الغطاس»: «الكرابيج» وتُصنع من «الدقيق» و«السمن» ويعمل منها أصابع صغيرة محشوَّة بالجوز، و«السمبوسك» وهى قطع من العجين تُحشى بالجوز والسكر ثم تُقلى بالزيت أو تُوضع بالفرن، و«القراقيش». وكل هذه الحلوى تُغطس رمزاً إلى الغطاس، قبل أكلها بمادة «الناطف» وهى من مادة نباتية تُطبخ بالسكر حتى تُشبه الكريمة.
الأردن
وللعيد مذاق خاص على ضفاف نهر الأردنّ، حيث يحتفل المسيحيّون الأُرثوذكس بعيد الغطاس كمثال عماد السيد المسيح فى نهر الأردنّ، فيغطَس البعض فى النهر، فى حين يتبارك الآخرون من الماء بغمس بعض الأقمشة.
روسيا
تحتفل الكنيسة الروسية الأرثوذكسية بعيدِ «الغِطاسِ» بإقامة القداسات الدينية فى الكنائس، ومباركة المياه بعد فتح ثغرة على شكل صليب. ويعقب الصلوات الاستحمام فى المياه الباردة المتجمدة التى يُعد الغطس فيها تقليداً قديماً.
إثيوبيا
يُعد عيد الغطاس أحد أهم الاحتفالات الدينية فيها، حيث يحتشد آلاف فى الشوارع للاحتفال به، ويتجمعون للحصول على بركة المياه المقدسة التى تمثل تعميد «السيد المسيح»، التى تشير إلى بداية حياة جديدة.
مِصر
يجرى الاحتفال فيها بصلوات العيد ليلته، إذ أشارت بعض المصادر من القرنين الثالث والخامس إلى أن معمودية المسيح كانت فى العاشرة مساءً، وأن السماء تُفتح فيها وينزل الروح القدس مُطهراً المياه من الأرواح الشريرة.
وكما ارتبطت طقوس هذا العيد بالغطس فى نهر الأردنّ بفلسطين هكذا ارتبطت فى مِصر بمياه نهر النيل بعد تقديسها. وكانت تُجرى على ضفاف نهر النيل أربعة طقوس: أولها صلوات تقديس مياه عيد الغطاس، والثانية صلوات ليبارك الله مياه النيل، والثالثة تُقام عند حدوث تأخر فى فيضان النيل من أجل ارتفاع مياهه، ثم أخيرًا صلوات تقديس مياه النيل فى عيد الصليب.
وذكر المؤرخون أن طقوس احتفال المسيحيِّين فى مِصر بعيد الغطاس كانت تقام على ضفاف النيل حاملين المشاعل، ثم يغطَّسون فى النهر بعد إتمام الصلوات وإلقاء الصليب المقدس فيه، ثم يعودون إلى الكنائس لإتمام بقية طقوس الاحتفال. واستقر إجراء طقس تقديس المياه فى عيد «الغطاس» داخل مبنى الكنيسة حيث تقام صلاة «اللَّقّان» ليلة العيد.
العيد طقسيًّا
فى ليلة العيد، يُعد «اللَّقّان» بغسله جيداً ومَلئه ماءً عذباً، أو يوضع الماء فى طبق كبير على مِنضدة وعن يمينه ويساره شمعتان. ثم تبدأ مراسم صلاة اللَّقّان أىْ «تبريك المياه»، يتبعها رشم الحاضرين بالماء للبركة، ويُختتم بصلوات القداس الإلهىّ.
عادات فى الطعام
يندُر أن تجد بيتاً مسيحيًّا فى مِصر لا يحتوى فى عيد الغطاس على «القلقاس» و«القصب» و«البرتقال»، ولكل منها علامة تشير إلى العيد. ففى القلقاس مادة سامة ومضرة للحنجرة، إلا أنها تتحول إلى مادة نافعة عند اختلاطها بالماء إشارةً إلى الماء الذى يطهِّر. أيضًا القلقاس ينمو فى باطن الأرض «مدفونًا» فيها ثم يخرج منها ليصير طعاماً، والغطاس هو نزول وصعود فى الماء.
أمّا «القصب» و«البرتقال» فيمتازان بغزارة السوائل الموجودة داخلهما حاملَين رمزاً إلى ماء المعمودية، ومذاقهما الحُلو رمز إلى بَركة المعمودية ونَيل مغفرة الخطايا. وأيضًا كان يُستخدم قشر البرتقال فى القديم كفوانيس توضع بها الشموع فى أثناء الاحتفال بقداس عيد «الغطاس» على أحد المجارى المائية.
ويذكر المؤرخون أن المصريِّين جميعاً كانوا يحتفلون بعيدى الغطاس والميلاد من خلال التنزه على نهر النيل وركوب المراكب لتمتد فرحة العيد شاملة مِصر كلها. وكانت الاحتفالات غير مقصورة على المسيحيِّين فى مِصر بل شاركهم المسلمون فيها أيضًا بحب وتسامح، إلا أن هذا تغيَّر فى العصر العثمانىّ.
وقد سادت هذه الحِقبة التاريخية المحبة والتسامح، حيث شارك فيها الحكام ـ أمثال الحاكم بأمر الله الفاطمىّ، والمتوكل، وهارون الرشيد ـ فى جميع الاحتفالات الدينية القبطية، مما أدى إلى خلق جو من المحبة بين أفراد الشعب الواحد. ففى الاحتفالات والأعياد تتقارب الأنفس والقلوب ويعُمّ السلام و… وعن «مصر الحلوة» وأعيادها الحديث لا ينتهى..!
الأسقف العام ورئيس المركز الثقافىّ القبطىّ الأرثوذكسىّ