تحدثت المقالة السابقة عن رعاية القديس “البابا كيرلس السادس” لشعبه وعنايته بهم، وكيف كان يخدم بأمانة قلب ومحبة فياضة تجلت نحو الجميع، ففتح بابه لكل إنسان، متسلحا بالصلاة في حل المشكلات وسد الاحتياجات؛ فصارت حَبريته مرحلة مشرقة في تاريخ “مِصر” و”الكنيسة القبطية الأُرثوذكسية”.
كان “البابا كيرلس” أبًا للجميع، يقضّي ساعات في لقاءات أبنائه، حتى إنه لم يكُن يهتم بطعامه أو راحته من أجل استقبال زائريه. ويُذكر أن المتنيح “أنبا أثناسيوس”، مِطران بني سويف آنذاك، حضر ذات يوم لمقابلة “البابا كيرلس” الثانية والنصف من بعد الظهر، فوجد قداسته وهو ما يزال في استقبال أبنائه وزائريه من بعد القداس، دون تناول طعام الإفطار بعد!! فأصر الأب الأسقف على اصطحاب البابا إلى قلايته ليتناول الطعام ويأخذ قسطًا من الراحة. وما هي إلا ساعات قلائل حتى عاد الأب البطريرك ليجلس بين شعبه وأبنائه عدة ساعات أخرى، يصلي لهم ويباركهم، ويستمع إلى شكاواهم وحاجاتهم!! وكان قداسته يسأل عن المرضى من الآباء الأساقفة والكهنة والشعب، سواء بالزيارة أو بالاتصال، فيذكر لنا تلميذ قداسته الراهب “القمص رافائيل آڤا مينا”: “وفي أوائل حَبريته، زار «المستشفى القبطي» بالقاهرة والإسكندرية، مبتدئًا بنزلاء الدرجة الثالثة، ما كان له أعظم الأثر في النفوس.”.
وفي محبة قداسته نحو الكل، أحب حتى من أساؤوا إليه؛ فكان يصلي لهم ويقدم لهم كل محبة، ومن عاد إليه مقرًّا بخطئه كان يقبله بقلب الأب المتسع الغافر الذي استرد ابنه. ويُذكر عن إحدى المجلات أنها اعتادت أن تكتُب مقالات ضد قداسته زمنًا طويلاً، حتى أتى يوم أُغلقت فيه؛ فلم يكُن من قداسته إلا أن توسط لعامليها جميعًا من أجل تعويضهم بوظائف في جرائد أخرى.
وفي ظل تلك الخدمة الباذلة والمحبة الغامرة وحياة الصلاة الدائمة، قدمت السماء شَهادتها لما للبابا من قداسة؛ إذ شرفت عهده بتجليات سمائية للقديسة “السيدة العذراء”، على قِباب كنيستها بالزيتون عام ١٩٦٨م، التي احتفلنا بتَذكارها في الثاني من إبريل الماضي. ففي الثامنة والنصف من مساء الثلاثاء ١٩٦٨/٤/٢م، شاهد أحد خفراء “جراچ هيئة النقل العام”، وهو مقبل إلى الكنيسة، فتاةً تمشي فوق قبتها؛ فأخذ يصيح هو ومن معه، ظانين أنها تريد الانتحار!! وتجمعت المارة، وأُبلغ رجال الشرطة وحضروا، ووجد الجميع أن ملامح الفتاة قد ازدادت وضوحًا واشتد ضياؤها، وبدأت تسير في هدوء فوق قبة الكنيسة، تمسك في يدها بما يشبه غصن الزيتون، ثم ظهر سرب من حمام أبيض، ودائرة من نور حولها. ظن بعضٌ أن ذٰلك التجلي خُدعة ضوئية أو بصرية؛ فسُلطت الأضواء الكاشفة على الجسم النوراني فازداد تألقًا!! ثم أُطفئت الأنوار في المِنطقة؛ فظهرت “السيدة العذراء” أشد نورًا!!! وسرعان ما انطلقت أنباء ظهورها في جميع رُبوع “مِصر” والعالم. وتوافد الزائرون من جميع أنحاء “مصر” والعالم لمشاهدة تلك التجليات التي امتدت شهورًا.
صاحبت تجليات “السيدة العذراء” بركات عظيمة؛ إذ نال كثيرون من مختلف الجنسيات والأديان أشفيةً من أمراضهم المستعصية. وقد أمر “القديس البابا كيرلس السادس” بإصدار بيان بابويّ بشأن تجليات “السيدة العذراء”، أذيع السبت ١٩٦٨/٥/٤م، في مؤتمر صحفي عالميّ، قرأه المتنيح “أنبا أثناسيوس” بالعربية ثم الإنجليزية؛ جاء فيه: “…والمقر البابويّ، إذ يصدر هٰذا البيان، يقرر بمِلء الإيمان، وعظيم الفرح، وبالشكر الانسحاقي أمام العزة الإلٰهية، أن «السيدة العذراء» «أم النور»، قد والت ظهورها بأشكال واضحة ثابتة، في ليالٍ كثيفة مختلفة، لفترات متفاوتة وصلت في بعضها لأكثر من الساعتين دون انقطاع!!! وذٰلك ابتداءً من مساء الثلاثاء ١٩٦٨/٤/٢م، الموافق الرابع والعشرين من برمهات ١٦٨٤ش، حتى الآن، بـ«كنيسة السيدة العذراء القبطية الأرثوذكسية» بشارع طومنباي بحيّ الزيتون، في طريق المطرية بالقاهرة، وهو الطريق الثابت تاريخيًّا أن «العائلة المقدسة» قد اجتازته في تنقلاتها خلال إقامتها بـ«مِصر». جعل الله هٰذه البركة رمز سلام للعالم، ويُمنًا لوطننا العزيز، ولشعبنا المبارَك الذي سبق الوحي الإلٰهيّ ونطق عنه: «مباركٌ شعبي مِصر».”. و… والحديث في “مصر الحلوة” لا ينتهي!
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ