أهنئ إخوتنا المسلمين، في”مِصر” والمِنطَقة العربية والعالم، بمناسبة بدء صوم “شهر رمضان” الذي يأتي متزامنا مع أيام “الصوم الكبير” لإخوتهم المسيحيين، الذي بدأ أواخر الشهر الماضي؛ ليتشارك أبناء الشعب الواحد في عمل روحيّ يقدمونه إلى الله. نصلي إلى الله أن يقبل أصوامنا كرائحة بخور، ويحفظ “مِصر” والمِصريِّين جميعًا من كل شر، ويملأنا سلامه ويمنحنا بركاته.
والصوم هو أحد الأركان المهمة التي نادت بها الأديان؛ ففيه تسمو روح الإنسان على الجسديات، فتنطلق نحو الله جابلها وخالقها لتتمتع ببركات لا تحصى وسُمو لا يُدرك. في الصوم يحاول الإنسان أن يسيطر على رغبات الجسد ومتطلباته من طعام وشراب وغيرهما حتى تتحرر الروح منها وترتقي فيتسامى الإنسان روحًا وجسدًا، وهو تدريب للنفس على قوة التحمل والإرادة والعزيمة. والصوم يقهر الشيطان بكل حيله ومحاولاته في الإيقاع بالإنسان، فمن تتقوى روحه بالله لا تغلبه قوى الشر.
وقد تحدثت الأديان عن الصوم وقوته ومكانته عند الله:
ففي اليهودية، نجد الملك “يَهُوشافاط” حين أتت عليه جيوش كثيرة من “بني موآب” و”بني عمون” أنه خاف: “وَجَعَلَ وَجْهَهُ لِيَطْلُبَ ٱلرَّبَّ، وَنَادَى بِصَوْمٍ فِي كُلِّ يَهُوذَا”؛ فجاءه رد الله على فم نبيه: “هٰكَذَا قَالَ ٱلرَّبُّ لَكُمْ: لَا تَخَافُوا وَلَا تَرْتَاعُوا بِسَبَبِ هٰذَا ٱلْجُمْهُورِ ٱلْكَثِيرِ، لِأَنَّ ٱلْحَرْبَ لَيْسَتْ لَكُمْ بَلْ لِلهِ.”. وحين تعرَّض شعب الملكة “أستير” للفناء، طلبت أن تقام الأصوام وتُرفع الصلوات كي يعطيها الله نعمة أمام الملك وتنقذ شعبها؛ وقد نجَّى الله شعبه وتحول يوم الهلاك إلى يوم عيد. وتوبة “أهل نينوى”، التي مُزجتبصومهم من كبيرهم إلى صغيرهم، قبلها الله ولم يهلكهم.
وفي المَسيحية، السيد المسيح قدَّم إلينا مثالاً في الصوم:”فَبَعْدَ مَا صَامَ أَرْبَعِينَ نَهَارًا وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً، جَاعَ أَخِيرًا.”،وعلَّمنا أن الغلبة على الشيطان وحروبه لا تكون إلا بتسامي الروح بالصوم والصلاة: “فَقَالَ لَهُمْ:هٰذَا ٱلْجِنْسُ (أي الشيطان) لَا يُمْكِنُ أَنْ يَخْرُجَ بِشَيْءٍ إِلَّا بِٱلصَّلاَةِ وَٱلصَّوْمِ”؛وهٰكذا تسلَّم تلاميذ السيد المسيح ورسله أهمية الصوم فكانوا يصومون كثيرًا،وسلَّموا الكنيسة ما رأوه وتسلموه من سيدهم المسيح عن الصوم.
وفي الإسلام،نجد في”سورةمريم” الصوم عن الكلام: ﴿فَقُولِىۤ إِنِّى نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا﴾،وفي “سورة البقرة”: ﴿يَٰۤأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾، وأيضًا: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾، وأن الصوم خير الإنسان: ﴿وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾، وهو لله ففي حديث قدسيّ:«كُلُّ عَمَلِ ٱبْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ، ٱلحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا، إلى سَبْع مِائَة ضِعْفٍ، قالَ ٱللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إلَّا ٱلصَّوْمَ؛ فإنَّه لي، وَأَنَا أَجْزِي به، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِن أَجْلِي …».
والصوم يصحبه ثلاث سمات أساسية: التوبة، الصلاة، العطاء. يقول يوئيل النبيّ: “«وَلٰكِنِ ٱلآنَ، يَقُولُ ٱلرَّبُّ، ٱرْجِعُوا إِلَيَّ بِكُلِّ قُلُوبِكُمْ، وَبِٱلصَّوْمِ وَٱلْبُكَاءِ وَٱلنَّوْحِ. وَمَزِّقُوا قُلُوبَكُمْ لَا ثِيَابَكُمْ». وَٱرْجِعُوا إِلَى ٱلرَّبِّ إِلٰهِكُمْ لِأَنَّهُ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ، بَطِيءُ ٱلْغَضَبِ وَكَثِيرُ ٱلرَّأْفَةِ …”. إن أوقات الصوم، لفرصة لأن يجلس الإنسان فيها إلى نفسه ،يحاسبها، نادمًا عما اقترفه من آثام وتعديات ومعاصٍ، فيسارع قلبه بتقديم توبة صادقة إلى الله قد تغير حياته وتعيده إلى الطريق الصحيح. ومن المفيد أن يتزامل الصوم والصلاة، فالصوم هو فرصة اقتراب إلى الله بحديث الصلاة. وتحضرني كلمات تقول: “دائمًا الصوم يقترن بالصلاة … الصوم دون صلاة هو كبت وحرمان، لٰكنه بالصلاة يتحول إلى انطلاق روحي للنفس”. وفي الصوم أيضًا يشعر الإنسان بضعفه وبالجوع والعطش مما يُلقي بوميض رحمة في قلبه تجاه المساكين والمعوزين والمتألمين، فينطلق الإنسان في عمل الخير والرحمة مع كل إنسان يلتقيه.يقول “القديس يوحنا الذهبيّ الفم” بطريرك القسطنطينية: “إن كنت تصوم دون صدقة، فلن يُحسب هٰذا العمل صومًا”. وهٰكذا نجد أعمال الرحمة والخير والعطاء تزداد وتكلل جبين الصائم أمام الله. كل عام وجميعكم بخير،و… والحديث في “مِصر الحلوة” لا ينتهي!
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ