احتفل مَسيحيُّو الشرق الأحد الماضي بـ”عيد أحد السَّعَف” أو “عيد الشَّعانين” أو “عيد دخول السيد المسيح إلى أورُشليم”، وتحتفل الكنيسة القبطية به قبل الاحتفال بعيد الفصح. لقد كان دخول “السيد المسيح” إلى أورُشليم محفوفًا باستقبال مهيب من الشعب البسيط، الذي جال بينه السيد المسيح يعلمه ويصنع الخير والمعجزات؛ فأشبع الآلاف بقليل من الخبز وصغار السمك، وشفى الأمراض: فتجد العمي يبصرون، والعرج يمشون، والصم يسمعون، بل الموتى أيضًا يُقامون من الأموات كما حدث مع ابن أرملة نايِين وابنة قائد المائة و”لعازر” الذي أقيم بعد موته بأربعة أيام؛ فقد ورد: “إن العُمْي يبصرون، والعُرْج يمشون، والبُرْص يطهَّرون، والصُمّ يسمعون، والموتى يقومون، والمساكين يبشَّرون.”.
وهٰكذا تقدم “السيد المسيح” في موكب عظيم، اهتزت له المدينة بأسرها، واستقبله فيه تلاميذه والشعب استقبال الملوك: فرفعوا سعف النخل، وأغصان الشجر، ومنهم من فرشوا ثيابهم على الطريق أمامه، يهتفون أمامه كأبواق لا تسكت ولا تهدأ: “أوصَنّا لابن داود! مبارَكٌ الآتي باسم الرب!”. أما السيد المسيح فتقدم في تواضع عجيب فريد، ممتطيًا أتانًا تارة وجحش ابن أتان تارة أخرى، معلنًا أن العظمة الحقيقية تكمن في المحبة والخير، لا في القوة أو السلطة، إذ نسمع رؤساء الكهنة والكتبة، الذين يملكون السلطة والعظمة، يطلبون إليه منزعجين أن يسكِت هُتاف الشعب وصيحات الأطفال.
و”شَعانين” مشتقة من الكلمة الآرامية “هُوْشَعْنا” (وتناظرها في اليونانية لفظة “أُوصَنّا”: أيْ “خلِّصنا”؛ حيث تتكون من مقطعين: “هُوْشَعا” ويعني “خلِّص” أو “أَنقِذ”، و”نا” الذي يدل على شدة الاحتياج؛ ليُصبح المعنى: “خلِّص الآن”. فقد ترددت أصداء نداء أفراد الشعب إلى “السيد المسيح” أن يصبح ملكًا عليهم ليخلصهم، غير مدركين أن ملكوته ليس أرضيًا، بل ملكوت سماويّ؛ فهو لم يأتِ لمقاومة الاحتلال الرومانيّ الذي يئنون تحت وطأته، بل ليقدم لهم الخلاص الأعمق خلاصهم الروحي، وليعلّمهم عن حياة البر والمحبة والقداسة؛ ومن أولٰئك من أدرك رسالته وقبِلها، ومن أظلمت بصيرته ورفضها.
إن حياة “السيد المسيح” هي إشراقة شمس البر في عالمنا، حاملاً في أشعتها رسالة محبة الله إلى الإنسان، ورغبته في خلاصه، فهو – تبارك اسمه: “الذي يريد أن جميع الناس يَخلُصون، وإلى معرفة الحق يُقْبِلون.”. كذٰلك قدم السيد المسيح للبشر الطريق الملوكي إلى الملكوت السماوي من خلال المحبة: محبة الإنسان لله، ومحبة الإنسان لأخيه الإنسان؛ فنراه حين أتاه شخص ناموسيّ ليجربه سائلًا: “«يا معلم، أية وصية هي العظمى في الناموس؟»”، يعلّمه: “«تحب الرب إلٰهك من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل فكرك. هٰذه هي الوصية الأولى والعظمى. والثانية مثلها: تحب قريبك كنفسك. بهاتين الوصيتين يتعلق الناموس كله والأنبياء».”. بل علّم أن المحبة الحقيقية ترتفع إلى مستوى محبة الأعداء: “أحبوا أعداءكم. بارِكوا لاعِنِيكم. أحسِنوا إلى مبغضيكم، وصلُّوا لأجل الذين يُسيئون إليكم ويطردونكم، لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السمٰوات، فإنه يُشرق شمسه على الأشرار والصالحين، ويَمْطُر على الأبرار والظالمين.”. إن هٰذه المحبة هي التي ينبغي أن تقود العالم إلى التصالح والسلام مع الله والنفس والآخرين، سلام يسعى له الجميع بكل السبل والوسائل، ولن يجدوه إلا بالمحبة والخير نحو كل إنسان. إن رسالة “أحد السعف” إلى الجميع رسالة المحبة والخير، فهما القوة الحقيقية التي تشع بوهجها على الحياة.
ويعقب الاحتفال بيوم “أحد السَّعَف” الاستعداد لـ”أسبوع الآلام” أو “الأسبوع العظيم” أو “أسبوع الفِصْح” أو “أسبوع البَصْخَة”. وكلمة “بَصْخَة” آرامية معناها بالعربية: “العبور”، و بالعبرية: “الفِصْح”. وفي ذٰلك الأسبوع يتّبع المَسيحيون خطوات “السيد المسيح” وتعاليمه حتى صلبه ودفنه وقيامته، و… والحديث في “مصر الحلوة” لا ينتهي!
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ